بسم الله الرحمن الرّحيم الحمد لله قدر رحمته، وأفضل الصلاة والسّلام على المصطفى سيد خليقته، وعلى آله أطيب خيرته. السلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون الأكارم، ورحمة الله وبركاته، تفاجئنا سورة النبأ في مستهلّ آياتها الشريفة بتساؤل لافت للقلوب والاذهان ذلك قوله تبارك وتعالى:
"عَمَّ يَتَسَاءلُونَ{۱} عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ{۲} الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ{۳} كَلَّا سَيَعْلَمُونَ{٤} ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ{٥}". فلنحاول هنا التعرّف على بعض مقاصد هذه الآيات المباركة، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبأٍ عظيم، ثمّ ذكر في لحن التهديد أنّهم سيعلمون. والتساؤلُ هو سؤال القوم بعضهم بعضاً عن أمر، أو سؤال بعضهم بعد بعضٍ عن أمر، أو عن نبأٍ عظيمٍ اختلفوا فيه، أو اختلفوا في طريقة إنكارهم وإن اتّفقوا على نفيه وإنكاره! وإذا كان للقرآن الكريم، كما في الأخبار الشريفة، ظاهرٌ وباطن، فإنّ هذا النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه هو الولاية، وهو من معاني بواطن القرآن. قال المفسّرون: "عَمَّ يَتَسَاءلُونَ" ؟! معنى هذا الاستفهام هو تفخيم شأن ما يسأل عنه، وكأنه لفخامته خفي جنسه "عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ" بيانٌ لشأن المفخم. وقالوا: النبأ العظيم هو الولاية. ذكر السيد ابن طاووس في كتابه (الطرائف)، والسيد هاشم البحرانيّ في كتابه (البرهان في تفسير القرآن)، والحافظ رجب البرسي في تفسيره (الدرّ الثمين) في ظلّ آية النبأ العظيم المباركة، قائلين: روى الحافظ محمّد بن مؤمن الشيرازيّ، وهو من أعلام السنّة، في كتابه المستخرج من التفاسير في بيانه لقوله تعالى: "عَمَّ يَتَسَاءلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ" باسنادٍ إلى السّديّ، يرفعه قائلاً: أقبل صخر بن حرب (وهو أبو سفيان) حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمّد، هذا الأمر، ويقصد الخلافة أو الحكم، لنا من بعدك؟ أم لمن؟! فأجابه النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا صخر! الأمر بعدي لمن هو منّي بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام. فأنزل الله عزّوجلّ: "عَمَّ يَتَسَاءلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ" ، يعني: يسألك أهل مكة عن خلافة عليّ بن أبي طالب، الذي فيه مختلفون، منهم المصدّق بولايته وخلافته، ومنهم المكذّب قال: "كَلَّا" وهو ردٌّ عليهم، "سَيَعْلَمُونَ" أي سيعرفون خلافته بعدك أنّها حقّ، "ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ" أي سيعرفون خلافته وولايته، إذ يسألون عنها في قبورهم، فلا يبقى ميتٌ في شرقٍ ولا غرب، ولا في بحر، إلاّ ومنكرٌ ونكيرٌ يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ بعد الموت، يقولان له: من ربّك، وما دينك، ومن نبيك، ومن إمامك؟!.
*******
ونبقى أيها الإخوة الأعزّة الأكارم، مع ما ينقله علماء العامّة في شأن آية النبأ العظيم، فنجد الحافظ الحسكانيّ وهو حنفيُّ المذهب، يروي الخبر الذي عرضناه على مسامعكم الكريمة، وفي آخره: سيعرفون خلافته (أي خلافة عليٍّ عليه السلام) أنهّا حقّ، إذ يسألون عنها في قبورهم، فلا يبقى ميتٌ في شرقٍ ولا غرب، ولا برٍّ ولا بحر، إلاّ ومنكرٌ ونكيرٌ يسألانه، يقولان للميت: من ربّك وما دينك، ومن نبيك ومن إمامك؟!. وقبل ذلك يروي الحسكاني بإسناده إلى أبي حمزة الثماليّ قال: سألت أبا جعفرٍ عن قول الله تعالى:"عَمَّ يَتَسَاءلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ" فقال: كان عليٌّ يقول لأصحابه: أنا والله، النبأ العظيم الذي اختلف فيّ الأمم بألسنتها. ثمّ يروي خبراً آخر باسناده عن أبان بن تغلب قال: سألت أبا جعفرٍ عن قول الله عزّوجلّ: ("عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ" فقال: النبأ العظيم عليّ، وفيه اختلفوا، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله ليس فيه اختلاف. وفي رواية أخرى: ليس فيه خلاف، وأماّ من الروايات الخاصّة، فقد نقل السيد هاشم البحرانيّ في كتابه (اللوامع النورانية، في أسماء عليٍّ وأهل بيته القرآنية) في ظلّ الاسم السابع والثلاثين بعد الألف تحت عنوان: أنّ علياً عليه السلام هو النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون، نقل عن ابن بابويه (الشيخ الصدوق) من كتابه: عيون أخبار الرضا (ع) بسندٍ ينتهي إلى ياسر الخادم، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه عليهم السلام، عن الإمام الحسين عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعليٍ عليه السلام: (يا عليّ، أنت حجة الله، وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم، وأنت المثل الأعلى. يا عليّ، أنت إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، وخير الوصيين، وسيد الصدّيقين. يا عليّ، أنت الفاروق الأعظم، وأنت الصدّيق الأكبر. يا عليّ، أنت خليفتي على أمّتي، وأنت قاضي ديني، وأنت منجز عدتي. يا عليّ، أنت المظلوم بعدي. يا عليّ، أنت المفارق بعدي. يا عليّ، أنت المحجور بعدي!)، إلى آخر الحديث الشريف. وفي كتابه (تأويل الآيات الظاهرة) روى السيد شرف الدين الحسينيُّ الأسترآباديّ بإسناده عن علقمة أنّه قال: خرج يوم صفّين رجلٌ من عسكر الشام وعليه سلاحٌ وفوقه مصحفٌ وهو يقرأ: "عَمَّ يَتَسَاءلُونَ" قال علقمة: فأردت البراز إليه، فقال عليٌّ عليه السلام: مكانك! وخرج بنفسه فقال عليه السلام له: أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟! قال الرجل: لا. فقال له عليٌّ عليه السلام: (أنا والله النبأ العظيم الذي فيّ اختلفتم، وعلى ولايته تنازعتم، وعن ولايتي رجعتم بعدما قبلتم، وببغيكم هلكتم بعدما بسيفي نجوتم، ويوم الغدير قد علمتم، ويوم القيامة تعلمون ما علمتم). قال علقمة: ثمّ علاه عليٌّ عليه السلام بسيفه فرمى برأسه ويده!.
*******
وأخيراً، ونحن نقف عند آيات سورة النبأ، نرى أيها الإخوة الأحبّة، نجد مرّةً بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، ضرورة التأمّل في كتاب الله تبارك وتعالى، لنفيق من غفلة القراءة العابرة دون الانتباه إلى مقاصد كلام الله جلّ وعلا وما يريده منّا، وقد خاطبنا الباري جلّت قدرته، وهو العليّ العظيم، والمستغني عناّ وعن عبادتنا، خاطبنا ونحن عباده المذنبون الغافلون، يريد لنا الهداية والرحمة والمغفرة والعزة والكرامة، والنجاة والفوز برضوانه، وجنانه، وقد وضع أمام بصائرنا وأبصارنا هذه الآيات المباركات تنبّهنا إلى النبأ العظيم، الذي سنسأل غداً عنه، وهو ولاية خليفة رسول الله بالحقّ عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يسأل المرء غداً إلاّ عما أوجبه الله تعالى وأكده وألزم عباده به، فيحاسب عليه، ويثيب أو يعاقب عليه. وهذا من شأنه سبحانه جلّت عظمته، أماّ من شأننا نحن عبيده، فهو أن نعدّ عدتنا لما سنسأل غداً عنه ويسائلنا، وقد قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: (فالحذر الحذر، من قبل الندامة والحسرة، والقدوم على الله والوقوف بين يديه). وقال سلام الله عليه أيضاً: (ابن آدم، إنّك ميتٌ ومبعوث، وموقوفٌ بين يدي الله جلّ وعزّ، فأعدّ جواباً).
*******