مستمعينا الأكارم في كلّ مكان !
سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركاته ، وكلّ المراحب بكم في هذه الجولة الجديدة التي يسرّنا أن تجمعنا بحضراتكم عند محطّة أخري من محطّات برنامجكم علي خطي النهج وحديثنا في هذه الحلقة ميزال يدور حول أسلوب الطباق والمبالغة وتجلّياته في نهج البلاغة ، ندعوكم لمتابعتنا ....
أحبّتنا المستمعين !
مايزال حديثنا يدور حول فنّ الطباق والمقابلة وأمثلته ونماذجه في نهج البلاغة ، حيث تصادفنا ونحن نتصفّح هذا الكتاب الخالد الكثيرُ من الأمثلة التي تجسّد فيها هذا الفن كأحسن وأروع ما يكون التجسّد من مثل قوله – سلام الله عليه – في واحدة من خطبه حول الشبهة وحقيقتها:
" وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لاِنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى ، وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ الضَّلالُ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمْى، فَمَا يَنْجُو مِنَ المَوْتِ مَنْ خَافَهُ، وَلا يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ .
فها هنا تطالعنا صورتان مختلفتان عبّر عنهما عليه السلام بالمقابلة بين أعداء الله وأولياء الله وهما ؛ صورة المؤمن الذي قاده الهدى الى اليقين وصورة الكافر الذي قاده العمى الى الضلال وقد تضمن النص جملتين منفيتين هما فما ينجو و لا يُعطى توحد فيهما السجع والطباق في المفردتين (خافه) و (أحبّه) فنتج عن ذلك التوحد والتلازم تمامُ المعنى والتناغم الصوتي ووفّر متعة مضاعفة تمثلت في وضوح المعنى وسلامة العبارة. وهذه هي فلسفة الإمام عن الموت فلا الخوف ينجي منه ولا التقرب إليه يمنح البقاء فالهروب منه هو هروب إليه لا بروج تمنعه ولا حصون ويتسلل اليهم دون مانع له إلاّ الأجل.
وقال – سلام الله عليه - في حمد الله ومعرفته :
" اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ اَلْأَصْوَاتِ وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ اَلْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ اَلْأَجْسَامِ وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِنٍ بَاطِنٌ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ .
فالنص السابق يقوم على بيان صفات الله التي أوردها في علم الله بخفيات الأمور وفي بنية بديعية كان طرفاها الطباق (أولاً وآخراً) في بدايته (وظاهراً وباطناً) في نهايته وتوسطها جملة من الطباقات وبذا يكون النص قائماً على هذه المقابلة الكاشفة عن دلالة النص منذ الوهلة الأولى حيث لا يوجد فاصل بين المفردات التي كان الطباق جزءاً منها لان الموصوف واحد وهو الله تعالى وهذا ما أراد الإمام بيانه .
مستمعينا الأعزّة !
وللطباق والمقابلة أنواع وأقسام كما سبقت الإشارة ، ولكننا نريد أن نتعرّف علي هذه الأنواع واستخداماتها في نهج البلاغة ، وهو ما سألنا عنه خبير البرنامج علي الهاتف الأستاذ كاظم حشمت فر الأستاذ الجامعي والأكاديمي من الجمهورية الاسلامية في ايران حيث تفضّل في هذا الصدد قائلاً :
حشمت فر: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكذلك احيي وأسلم على المستمعين الأعزاء. المقابلة في الحقيقة هي موضوع من مواضيع البلاغة في قسم البديع، البلاغة، معاني وبيان وبديع. البديع هو في الألفاظ فنأتي بكلمات متضادة نسميها متقابلة مثل الأول والآخر، الظاهر والباطن. ويسمى هذا النوع من الصناعة البديعية المقابلة وكذلك الطباق، الطباق هنا مصطلح. وقد ورد في كلام امير البلاغة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه آلاف التحية والسلام لهذا الأسلوب استخداماً بالغاً في كلماته حيث يمكن أن نستلهم منها التأثير وتبيين المعاني. المقابلة تأتي لكي يتضح المعنى المتضاد للمعنى الذي قيل، على سبيل المثال حينما نقول في كلمة من كلمات الامام علي عليه السلام يقول "وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه" اذا أردنا أن نعلم معنى المتنفس او المستمع يريد أن يعرف ماذا يقصد الامام من المتنفس يأتي بكلمة كظمه حتى يتضح أكثر مفهوم المتنفس. او ربما لإنهاء الحجة على المستمع فيأتي بالمقابل والمطابق من حيث المعنى المتضاد لكي يتضح المعنى. وقد استخدم الامام في عباراته الكثير من هذا الأسلوب.
المحاورة: نتقدم بجزيل الشكر للأستاذ كاظم حشمت فر لإتاحته لنا هذه الفرصة ضمن برنامج على خطى النهج.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ومن مظاهر استخدام أسلوب الطباق والمقابلة في خطب الإمام عليّ عليه السلام، قولُه في أصحابه وأصحاب رسول الله ( ص ) :
" أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلًا مِنْهُمْ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَاثْنَتَيْنِ صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ وَبُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ.
فنحن نلاحظ أن الإمام بدأ خطابه بالتبرم والضجر موبّخاً أصحابه بعد توانيهم وتقاعسهم عن ردّ اعتداءات جند معاوية فيصفهم بغياب الصواب عن عقولهم واختلاف أهوائهم المبتلى بهم أمراؤهم ثم يعرض حالة التناقض بينهم وبين أصحاب معاوية فهم يعصون الإمام رغم طاعته لله وأصحاب معاوية يطيعونه رغم معصيته ثم يشبّههم بالإبل التي غاب عنها رعاتها فتفرقت وكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر وقد استخدم سلام الله عليه أداة الشرط كلّما التي تفيد معنى التجدد والتكرار وهذا النص يدل على مقدرة فنية عالية منحت قوله قوة وجمالاً باستخدام هذه الصيغ الطباقية المتقابلة التي كشف عنها النص.
مستمعينا الأطايب !
ومن المعلوم أن هناك أنواعاً من المقابلة بحسب المعنى حيث قد تكون المقابلة من حيث عدد المتقابِلات بين معنيين أو بين معان ثلاثة أو بين أربعة معان أو بين خمسة معان او بين سته معان وهكذا ، حول هذه الأنواع ومدي استخدامها في كلام أميرالمؤمنين عليه السلام توجّهنا بالسؤال إلي خبيرالبرنامج الذي تفضّل مشكوراً :
حشمت فر: المقابلة ربما تكون في جملة بين كلمتين او ربما تكون المقابلة بين كلمة او كلمتين او ثلاثة او أربعة او خمسة او ستة. حينما ننظر الى المقابلة التي استخدمها الامام علي عليه السلام، في الحقيقة البلاغة يجب أن لاتكون مصطنعة ولافيها تكلف. الامام علي عليه السلام كان يأتي بالكلمات دون أن يكلف نفسه او يتعب نفسه كما نرى عند عامة الناس، البليغ يأتي بالكلمات بسهولة وكذلك البديع في كلام الامام علي عليه السلام حينما يأتي بالمقابلة يأتي كأنه سلم، يأخذ بيد الانسان من المنصة الأولى وهكذا يرتقي به الى الثانية والثالثة والرابعة ثم الخامسة والسادسة وكأنه يرتقي به الى المعنى والمقصود المراد. على سبيل المثال نأخذ احدى هذه المفاهيم او كلمات الامام علي عليه السلام "إن من أبغض الرجال الى الله لعبداً وكله الله الى نفسه جائراً عن قصد السبيل سائراً بغير دليل إن دعي الى حرف الدنيا عمل وإن دعي الى حرف الآخرة كسل" أنظر حرف الدنيا، حرف الاخرة اذا اراد أن يفهم معنى حرف الدنيا يفهمه من حرف الآخرة او يلقي عليه الحجة ويقابل بين حرف الدنيا وحرف الآخرة ويقول هذا الانسان اذا اراد أن يعمل وفيه نفع مادي ودنيوي هنا تراه نشيطاً واذا قام الى عمل الاخرة كالعبادات نراه كسولاً. يستمر في كلامه "كان ما عمل له واجب عليه وكان ما ونى فيه ساقط عنه" هذا الانسان اذا رأى الاخرين ما عمل له يعني يعملون له عملاً كأنهم يعملون بواجبهم لكن هو حينما يقوم بعمل ونى، يعني كسل ولم يقف به بصورة ناحجة ويقول ليس واجب علي أن أقوم لهذا وكانه ساقط عنه هذا العمل. هذا الانسان الكسول الانسان الذي لايكون ذا نشاط في حياته بالنسبة لعمل ينتفع به في الآخرة وكذلك ينتفع به الآخرين نراه كسولاً فيقدم مصلحته وما هو يبغيه على مصلحة أي شيء في رأيه. نكرر العبارة "اذا حرث الدنيا حرث الآخرة" عمل، كسل. ماعمل، ما ونى. واجب عليه، ساقط عنه. نرى هذا التقابل في كلام الامام عليه عليه السلام.
المحاورة: مرة اخرى نجدد شكرنا الجزيل للأستاذ كاظم حشمت فر الأستاذ الجامعي والأكاديمي من ايران لإتاحته لنا هذه الفرصة.
أعزّتنا المستمعين !
ومن خطبة له في الوعظ والإرشاد تجلّي فيها فن الطباق والمقابلة قولُه:
" كونوا عن الدنيا نزاهاً والى الآخرة ولاهاً ولا تضعوا من رفعته التقوى وترفعوا من رفعته الدنيا ولا تشيموا بارقها .
بصيغ إنشائية اتخذت من الأمر والنهي وسيلة للتعبير ساق عليه السلام خطبته ، وهي أقوى من الصيغ الخبرية لأنها اشد تنبيها وأيقاظاً للمخاطب حيث طالبهم بأن يكونوا نزاهاً عن الدنيا اشد حباً للآخرة مستخدماً صيغتي جمع التكسير فعالاً ، نزاهاً و ولاهاً مما زاد الأمر تأكيداً وأن لا يضعوا من رفعت شأنَه التقوى ولا يرفعوا من ارتفع ببهارج الدنيا ، والمقابلة هنا واضحة.
وقال عليه السلام في موضع آخر:
" فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خيرٌ من فُرقة فيما تحبون من الباطل وإن الله سبحانه لم يُعطِ أحداً بفرقة خيراً ممّن مضى ولا ممّن بقى . يا أيها الناسُ طوبى لِمن شغله عيبُه عن عيوبِ الناس وطوبى لمن لزمَ بيتَه وأكل قوته واشتغل بطاعة ربِّه وبكى على خطيئته فكان في نفسه في شغلٍ والناسُ منه في راحة .
إنّ من يحافظ على نظام الألفة والاجتماع وان ثقل عليه أداء بعض حقوق الجماعة وشق عليه ما تكلفه به من الحق فذلك الجدير بالسعادة من دون من يسعى للشقاق وهدم نظام الجماعة وإن نال بذلك حقاً باطلاً وشهوة وقتية فقد يكون في حظه الوقتي شقاؤه الأبدي وقوله " فكان في نفسه في شغل والناس منه في راحة مستمدٌّ قول رسول الله (ص) " طوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب الناس. فيصبح المعنى كنائياً يراد به المعنى الآخر للمفردة وكان معنى القول " الجنة لمن شغله عيبه من عيوب الناس.
بهذا نصل بكم – أيّها الأحبّة – إلي ختام جولتنا لهذا الأسبوع بين ربوع آيات الأدب والبيان في نهج البلاغة ، وحتّي نعاود اللقاء بكم في الحلقـــة القادمة بإذن الله ، نشكر لكم كرم المتابعة ، وفي أمان الله .