تحايانا الخالصة نبعثها إليكم – حضرات المستمعين الأكارم – ونحن نعاود اللقاء بكم عند جولة أخري من جولاتنا بين رياض نهج البلاغة ومايزخر به من فنون الكلام وبديع البيان عبر برنامجكم علي خطي النهج والذي سنخصّص حلقته لهذا الأسبوع لتتبّع أحد الأساليب البديعيّة في النهج ألا وهو ما اصطلح عليه علماء البلاغة بـ الطباق والمقابلة ، ندعوكم للمتابعـــة ....
أحبّتنا المستمعين الأكارم !
يمثّل الطباق والمقابلة فنين بارزين من فنون علم البديع يقعان ضمن أقسام المحسِّنات المعنوية فالطباق يعدّ الفن الثالث من فنون البديع. وظل ملمحاً بارزاً متميزاً على الرغم من كثرة فنون البديع من جهة وتداخله مع علم البيان في كثير من مؤلفات النقاد والبلاغيين من جهة اخرى .
والمعنى الإصطلاحي للطباق هو الجمع بين المتضادين والمتقابلين في المعنى . وهذان المتضادان او المتقابلان قد يكونا اسمين او فعلين او حرفين . أما المقابلة فقد اختلفت الآراء فيها فمنهم من عدّها من أنواع الطباق واعتبرها داخلة ضمنه. ونظراً لهذا الاختلاف بين العلماء فإننا سنتناول الطباق والمقابلة في خطب الإمام علي عليه السلام بصورة متداخلة نظراً لورودها على هذا النحو في خطبه.
لقد تداخل فن الطباق مع المقابلة في مساحات واسعة من خطب الإمام علي سلام الله عليه في نهج البلاغة وتلاقحا مع الفنون البديعية والبيانية الأخرى ليكوّنا بذلك لوحة فنية نجد فيها الألفاظ خَدَماً للمعاني فما جاء من هذه الفنون لم يأت مقصوداً وإنما جاء عفوَ الخاطر وأدّت هذه الفنون وظائف دلالية ساهمت في إبراز المعنى المقصود والغرض منه من نصح وإرشاد وتذكير وتحذير ووعد فضلاً عن المعاني الأخرى التي طغت على خطب الإمام وسنتناول هذين الفنين المتداخلين وندرسهما دراسة دلالية بلاغية لنلحظ مدى التداخل والتجاور بينهما في اغلب النصوص النهجية ، ولكن بعد أن نستمع إلي الحديث التالي الذي أدلي به خبيرنا علي الهاتف حول فنّ الطباق والمقابلة وتعريفه في علم البلاغة وما حقيقة الفرق بين هذين الفنّين ، فلنستمع معاً الى خبير البرنامج سماحة الشيخ اليوسف الغروي الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
الغروي: بسم الله الرحمن الرحيم من الفنون البلاغية الطباق وكذلك من الفنون البلاغية المقابلة ومعنى ذلك كما في الآية "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء" هذا هو فن المقابلة وأما الطباق فيما اذا كانت الجملتين مترادفتين إما الاثنان في جانب الايجاب او الاثنان في جانب السلب بينما في المقابلة إيجاب وسلب متقابلين، تعز وتذل، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل فهذه هي المقابلة وتلك الطباق ومنها امثلة موجودة في نهج البلاغة ورحم الله الدكتور محمود البستاني في دراساته في الأدب العربي وفي نصوص نهج البلاغة، ما اكثر الأمثلة التي جاء بها من كلام امير المؤمنين في نهج البلاغة تنطبق بجلاء على الكثير من الفنون البلاغية ومنها فن الطباق وفن المقابلة في صياغة الجمل فسلام الله على صاحب البلاغة امير المؤمنين علي عليه السلام يوم ولد ويوم قام بالخطاب الديني الذي امتد على ضوء خطى رسول الله صلى الله عليه وآله وبقيت خطاباته الى هذا اليوم والى يوم القيامة امثولة ليس للمسلم المتدين فقط بل حتى من يريد أن يتعلم البلاغة بغض النظر عن الجانب الديني لذلك المرحوم الشريف الرضي سمى مجموعة خطب وكتب ورسائل امير المؤمنين علي عليه السلام سماها بنهج البلاغة يعني لم يسميها بإسم ديني او ايماني وإنما سماها نهج البلاغة لأن اسلوب هذه الكلمات وهذه الخطب وهذه الرسائل أسلوب لتعلم البلاغة. والسلام عليكم ورحمة الله.
المحاور: مستمعينا الأفاضل حياكم الله من اذاعة طهران نحييكم وانتم معنا في برنامج على خطى النهج.
مستمعينا الأحبّة !
ومن جملة أمثلة الطباق والمقابلة في النهج - وهي كثيرة بالنظر إلي كونها أسلوباً يلفت انتباه المتلقّي إلي المضمون والمعاني والمفاهيم الكامنة في الكلام - قولُه سلام الله عليه في خطبة له :
" شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا وَ مُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى ، الْيَمِينُ وَ الشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ الطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ .
فقد ورد في النص طباقُ إيجاب بين الجنة والنار وبجواره مقابلة بين ساع سريع وطالب بطيء ، حيث إن الناس أصناف منهم ساع الى ما عند الله السريع في سعيه وهو الواقف في حدود الشريعة لا يشغله فرضُها عن نفلها ولا شاقُّها عن سهلها ، والثاني البطيء له قلب تغمره الخشية وله صلة الى الطاعة ولكنه ربما قعد به عن السابقين ميلٌ الى الراحة وربما كانت له هفوات فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهو يرجو غفرانه كما أنه عبّر – عليه السلام - عن الخروج عن جادة الشريعة باليمين والشمال وعن الطريقة القويمة الطريق الوسطى فالمقابلة واضحة في النص للقارئ مند الوهلة الاولى.
ومن خطبة له وقد تواترت عليه الأخبارُ باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد حيث عبّر فيها عن ضجره لتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي فقال:
" مَا هِيَ إِلَّا الْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا ... وَ إِنِّي وَ اللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وَ بِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ وَ بِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ ... .
فقد عبّر عليه السلام عن هذا الموضوع بأسلوب التوكيد وبجمل اسمية مؤكدة ليؤكد ما طرحه و ابتدأ النص بطباق الإيجاب بين أقبضها وإبسطها حيث شبّه الكوفة بالثوب الذي يتصرف به صاحبه يقبضه ويبسطه ثم توالت صور المقابلة للتعبير عن الحالتين المتناقضتين لأتباع معاوية وبين أصحابه حيث جاءت المفردات معبّرة أصدقَ تعبير فقد قابل بين (اجتماعهم وتفرقكم) وبين (الباطل والحق) وبين (المعصية في الحق والطاعة في الباطل) و (أداء الامانة و الخيانة) و (الصلاح والفساد).
مستمعينا الأطايب !
من المعلوم أن أسلوب الطباق والمقابلة له أقسام ذكرها علماء البلاغة والبديع.
المحاورة: هذه الأقسام وأمثلتها في كلام امير المؤمنين عليه السلام ذكرها لنا خبيرنا على الهاتف فضيلة الشيخ اليوسف الغروي الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة، نسترعي انتباهكم.
الغروي: بسم الله الرحمن الرحيم نجد مقالاً في هذا الصدد في مجلة ميسان للدراسات الأكادمية المجلد التاسع العدد السابع عشر. عنوان المقال الطباق والمقابلة في خطب الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة، دراسة بلاغية دلالية والمجلة منشورة من قبل المديرية العامة لتربية ميسان معهد إعداد المعلمات. أذكر أمثلة من كلمات الامام امير المؤمنين عليه السلام تشتمل على الطباق والمقابلة وكثيراً ما في جملات متقاربة مثلاً في الخطبة الأولى من خطب نهج البلاغة يصف الامام امير المؤمنين علي عليه السلام خلقة الله سبحانه وتعالى في الكون فيصف السماء فيقول "من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع" فوقهم وتحتهم في الجملتين مقابلة، مرفوع وموضوع ايضاً فيها طباق ويمكن اعتبار المرفوع والموضوع مقابلة ويمكن اعتبارها طباقاً. وهناك في الخطبة السابعة والعشرين "يغار عليكم ولاتغيرون وتغزون ولاتغزون" هذه فيها من المقابلة والطباق في الجملتين المتعادلتين، الإغارة من قبل العدو عليكم وأنتم لاتقابلونهم بالإغارة المتقابلة والغزو من العدو عليكم وأنتم لاتغزوهم، وهذه اشارة على غارات معاوية على اطراف مملكة الامام امير المؤمنين عليه السلام بعد تحكيم الحكمين. هناك في الخطبة الثانية والأربعين ايضاً من كلماته المعروفة الجارية مجرى الأمثال يقول "كونوا من أبناء الآخرة ولاتكونوا من أبناء الدنيا" فهذه طباق في الأبنائين في الجملتين ولكن مقابلة في كلمتي الدنيا والآخرة وهذا يسمى طباقاً سلبياً. كذلك في جملة اخرى له عليه السلام في نفس هذه الخطبة" فاليوم عمل ولاحساب وغداً حساب ولاعمل" العمل في الجملتين طباق وإثبات الحساب في غد هذا من المقابلة. ايضاً في الخطبة الثانية والخمسين "فوالله لو حننت حنين الوله العجال لكان قليلاً مما أرجو لكم من ثوابه وأخاف عليكم من عقابه" المقابلة بين الرجاء والخوف وايضاً بين الثواب والعقاب. كذلك في الخطبة الثانية والثمانين "الحمد لله الذي علا بحوله ودنا بطوله" العلو والدنو في الجملتين المترادفتين مقابلة. كذلك في الخطبة ثلاثة وثلاثون بعد المئة "فالبصير منها شاخص والأعمى اليها شاخص" والضمير للدنيا فهذا طباق سلبي بين شاخص في الجملتين. ومن امثلة هذا المعنى موجودة في خطب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام غير قليل وإنما يستخدم الامام امير المؤمنين هذه الطرق البلاغية قبل أن تفنن الكتب البلاغية لأن الكتب البلاغية إنما كتبت وأنشأت وصنفت من خدود القرن الثالث الى القرن الرابع الهجري واما في العصور الأولى إنما كانت هذه السجايا طبيعية في البلغاء من امثال امير المؤمنين عليه السلام سيد البلغاء والفصحاء، إنما يستعملها امير المؤمنين عليه السلام على اساس أن الاسلام دين العقل ودين الفطرة والاسلام كدين عقلي عقلائي يستعمل الفنون البلاغية في كلماته إجتذاب وإلتفات الناس ورعاية عواطفهم وشعورهم ودغدغة عواطفهم. فسلام الله على امير المؤمنين علي السلام امير البيان. من يريد التفصيل فليراجع العنوان الذي ذكرناه من المقال والمجلة. والسلام عليكم ورحمة الله.
المحاورة: نتقدم بالشكر الجزيل سماحة الشيخ اليوسف الغروي الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة لإتاحته لنا هذه الفرصة.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
مازلتم تتابعونا عبر برنامجكم علي خطي النهج ، وحديثنا يدور حول أسلوب الطباق والمقابلة باعتباره إحدي المحسِّنات البديعيّة واستخداماته في نهج البلاغة من مثل قوله سلام الله عليه في خطبته الجهاديّة المعروفة :
" فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.
فنحن في النص السابق أمام صورة تضادّية تعكس لنا تقاعس أولئك القوم عن النهوض للحرب واتخاذهم حججاً واهية فإذا أمرهم بالصيف تذرّعوا بالحر وإذا أمرهم بالشتاء تذرّعوا بالبرد ، فإن كانوا من الحر والبرد يفرون فهم من السيف أفرّ ، وقد اكّد عليه السلام هذا المعنى بالقسم المسبوق بالشرط ؛ فالتقابل واضح بين (أيام الحر و أيام البرد) و(حمّارة القيظ وصبّارة القر) و(ينسلخ عنا البرد و يسبَخ عنّا الحر).
وقال عليه السلام :
" أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَغَداً السِّبَاقَ وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَالْغَايَةُ النَّارُ .
إنّ ما في هذا النص من فخامة اللفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سراً عجيباً ومعنى لطيفاً وهو قوله عليه السلام ((والسَّبَقةُ الجنةُ والغايةُ النارُ)) ، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ولم يقل السبقة النار كما قال السبقة الجنة لأن الاستباق انما يكون على أمر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجوداً في النار فلم يجز ان يقول والسبقة النار بل قال والغاية النار لان الغاية ينتهي اليها من لا يسرّه الانتهاءُ ومن يسرّه ذلك ، فصلح ان يعبّر بها عن الأمرين معاً فهي في هذا الموضــوع كالمصير والمال .
مستمعينا الأكارم !
في ختام حلقتنا لهذا الأسبوع من برنامج علي خطي النهج لايسعنا إلّا أن نقدّم لكم خالص شكرنا وتقديرنا علي كرم متابعتكم ، وعلي أمل أن نكمل حديثنا حول الطباق والمقابلة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في حلقة الأسبوع المقبل بإذن الله ، تقبّلوا منّا كل الحب ، وإلي الملتقي .