إخوتنا المستمعين الأكارم في كلّ مكان !
يسرّنا أن نجدّد لقاءنا بكم عبر آيات الفن والبلاغة وروعة البيان في نهج أمير المؤمنين من خلال محطّة أخري من برنامجكم علي خطي النهج سنستكمل فيه استعراضنا وتحليلنا للمزيد من النماذج والأمثلة حول فنّ الجناس بأنواعه ، ندعوكم للمتابعـــة ...
أعزّتنا المستمعين !
لقد جاءت كلّ ضروب الجناس في نهج البلاغة ، وكان ممّا أُثرِيت به عباراته بالجرس والإيقاع ، ومنها علي سبيل المثال الجناس التام وهو أن يتّفق اللفظان المتجانسان في آنواع الحروف وأعدادها وهيئتها وترتيبها . ويعتبر هذا النوع من الجناس أكمل أصنافه إبداعاً وأعلاها رتبة ، من مثل قوله عليه السلام في إحدي خطبه :
" وَ إِنّمَا الدّنيَا مُنتَهَي بَصَرِ الأَعمَي لَا يُبصِرُ مِمّا وَرَاءَهَا شَيئاً وَ البَصِيرُ يَنفُذُهَا بَصَرُهُ وَ يَعلَمُ أَنّ الدّارَ وَرَاءَهَا فَالبَصِيرُ مِنهَا شَاخِصٌ وَ الأَعمَي إِلَيهَا شَاخِصٌ وَ البَصِيرُ مِنهَا مُتَزَوّدٌ وَ الأَعمَي لَهَا مُتَزَوّدٌ .
فلقد قصد سلام الله عليه من لفظة الشاخص الأولي الراحلَ الذي يشخص للسفر ، كقولهم : نحن علي سفر قد أشخصنا أي حان شخوصُنا . وتعني الشاخص الثانية ، المرتقِبَ المتلهّف إلي أمر أدهشه . كما وقع التجنيس التام في لفظة متزوِّد ؛ فالأولي تعني الراحلَ المسافر عن الدنيا ، والثانية تعني الراحلَ إليها والقاصد لها .
ونلاحظ التجنيس التامّ في قوله عليه السلام في أولياء الله :
" واستقربوا الأجلَ فبادَروا العملَ ، وكذّبوا الأملَ فلاحظوا الأجل .
فقد جاء التجنيس التام في لفظة الأجل ؛ إذ تعني الأولي المدّةَ من الوقت ويراد من الثانية الموتُ .
مستمعينا الأكارم !
ومن أنواع الجناس الأخري التي ورد استخدامها في نهج البلاغة ، ما يسمّي بالجناس الناقص .
المحاور: هذا النوع من الجناس حدثنا عنه وعن نماذجه وأمثلته في النهج ضيف حلقتنا لهذا اليوم فضيلة الشيخ حسين احمد السيد الكاتب والباحث الاسلامي من سوريا فلنستمع معاً الى ما تفضل به
السيد: أيها الكرام حديثنا هذه الليلة عن الجناس الناقص، في الحلقة الماضية تكلمنا عن الجناس وقلنا إنه من عدة انواع ومن اهمها الجناس الكامل ويعني فيما يعنيه تطابق لفظين بعدد الحروف وشكلهما وترتيبهما ولكن الاختلاف في المعنى فقط، هذا يسمى بالجناس الكامل واما الجناس الناقص فهو التشابه بين كلمتين او لفظين او اسمين او فعلين في نوع وعدد وشكل الحروف ولكن قد يكون الاختلاف بحرف او أكثر، هذا يسمى الجناس الناقص. ومن جملة ما ورد في نهج البلاغة عن امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام الكثير الكثير لأنه من أجمل ما يمكن أن يضفي الجمال على الكلام هو هذا النوع، الجناس الناقص او الجناس بشكله العام. فيقول عليه السلام في كلمة له يصف فيها اهل البيت عليهم السلام "إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي" الجناس هنا بين الغالي والتالي، الاختلاف بين الغين والتاء فقط. فهنا جناس ناقص وكم يعطي جمالية للكلام. كقوله في دعاء له في نهج البلاغة ايضاً "اللهم إغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ" كم هو جميل ورائع، كم هو عظيم هذا الكلام الذي يتفوه به امير المؤمنين وسيد البلغاء من العرب قاطبة فإنه يعطي جمالية ولاأروع بين رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ. وكما في قول له روحي له الفداء في خطبة اخرى يقول "يأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر ويتناهون عنه" هنا الجناس يعطي معنى اضافياً ويعطي معنى جمالياً للكلام، هذا ما يسمى في لغة العرب وفي اللغة العربية الجناس الناقص.
المحاورة: نتقدم بالشكر الجزيل لسماحة السيد حسين احمد السيد الكاتب والباحث الاسلامي من سوريا لإتاحته لنا هذه الفرصة.
أحبّتنا المستمعين !
وجناس التصحيف هو شكل آخر من أشكال الجناس الفنّية التي ذكرها علماء البديع ، وهو أن يتّفق اللفظان المتجانسان في شكل الحروف ويختلفان في تنقيطها ، وقد جاء في كلام الإمام عليه السلام كثيراً ، من نحو قوله في المتقاعسين عن الاستجابة لأمره :
" أضرعَ اللهُ خدودَكم وأتعسَ جُدودَكم .
فهناك بين الكلمتين ( خدود ) و ( جدود ) تماثلٌ في رسم الحروف ، وتباين في وضع النُقَط .
ومثل هذا الجناس وقع أيضاً في قوله سلام الله عليه في دعواته لمحاربة الشيطان : " فاجعلوا عليه حدَّكم وله جدَّكم .
ويبدو الجرس عالياً في أمثال هذه التركيبات الجميلة في كلام الإمام بسبب توافر عناصره فيها ، فقد أقيمت علي أسلوب التوازن ، والتوازن من أهم مظاهر الإيقاع الصوتي .
وقد جيء بالتجنيس الناقص بين لفظتي ( نومكم) و ( يومكم ) علي أساس التشابه في رسم الخط لحروف اللفظتين ، وذلك في قوله موصياً بالتقوي :
" أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ ... أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ، واقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ .
ولاشك في أنّ لكلّ تلك العناصر أثرها الواضح في إغناء العبارة بالجرس وتقويته إمعاناً في شدّ المتلقّي للتأثير فيه وبلوغ المراد من الهدف الأهم من الخطابة وهو الإقناع ، لأنّ أكثر مظاهر الجناس في كلام الإمام عليه السلام جاءت في فنّه المسموع وهو الخطابة ، وقلّت في فنّه المقروء وهو الكتب والرسائل .
وقريب من جناس التصحيف نوعٌ آخر من الجناس اصطلح عليه علماء البلاغة باسم جناس التحريف ، وهو أيضاً يعدّ من أنواع الجناس الفنيّة التي تُظهر براعة المتكلّم والأديب في التصرّف بفنون الكلام وإخراجه علي قدر كبير من الطرافة والتأثير ، وممّا جاء من هذا الضرب من التجنيس في نهج البلاغة قول أمير المؤمنين عليه السلام :
" فإنّ التقوي في اليومِ الحِرزُ والجُنَّةُ ، وفي غدٍ الطريقُ إلي الجَنّة .
فالجُنَّة وهي ما يتّقي به من درع ونحوه ، تماثلُ الجَنَّةَ في الحروف ولكن تختلفان في تشكيل حرف الجيم فيهما .
ومن الأمثلة الجميلة والطريفة الأخري لهذا النوع من الجناس في النهج ، قوله في خلقة الطاووس :
" فإن شبَهتَه بما أنبتت الأرضُ قلتَ جَنَيً جُنِيَ من زهرة كلِّ ربيع .
فالجَنَي هو الثمر الذي حان قطافُه و ( جُنِيَ ) فعل مبنيّ للمجهول ، ومن البيّن أنّ هذه التجنيسات كانت من آليات التنغيم في كلام الإمام عليه السلام وأسباب تقوية جرس ألفاظه .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
المحاور: اخوتنا المستمعين اخواتنا المستمعات تحية لكم. نختتم جولتنا لهذا الأسبوع في رحاب مظاهر الجمال البياني والبلاغي في نهج البلاغة عبر برنامجكم علي خطي النهج بالحديث التالي الذي أدلي به ضيف البرنامج فضيلة الشيخ حسين احمد السيد الكاتب والباحث الاسلامي من سوريا حول نوع آخر من الجناس المستخدم بأبهى صورة وأجمل حلة في نهج البلاغة ألا وهو الجناس المضارع فلنصغي معاً
السيد: من انواع الجناس هو الجناس المضارع او المضارعة أي المشاكلة والمشابهة والتساوي والتساوق، وهو جناس اتفاقي جزئي بين حرفين فقط من الكلمة سواء أتى في أولها او في وسطها او في آخرها، إنه جناس المضارعة أي اللفظ الأول يضارع اللفظ الثاني في هذين الحرفين ولكن الاختلاف يكون في المعنى كقوله سلام الله عليه في نهج البلاغة "إنما حظ احكم من الأرض ذات الطول والعرض" الأرض والعرض، هنا مضارعة بين الراء والضاد في الكلمتين. كما يقول عليه السلام "وكنت أخصبهم صوتاً وأعلاهم سوتا" صوتاً سوتاً، الواو والتاء والألف. كما يقول عليه السلام "كالجبل لاتحركه القواصف ولاتزيله العواصف" هنا جناس المضارعة، الجناس الذي يتفق اللفظين او الكلمتين في حرفين او اكثر ويعطي جمالية وبهاءاً ومعنى اضافياً في الكلام العربي. كما أنه عليه السلام يقول "أخلاقكم دقاق وعهدكم شقاق ودينكم نفاق وماءكم زعاق" طبعاً يخاطب أهل البصرة في يوم الجمل. أنظر ماأجمل هذا الجناس وهذه المضارعة، دقاق، شقاق، نفاق، زعاق. وما أكثره في نهج البلاغة من محسنات بديعية لفظية ومعنوية ونكتفي بهذا القدر في هذا اليوم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
المحاورة: مع شكرنا الجزيل لسماحة الشيخ حسين احمد السيد الكاتب والباحث الاسلامي من سوريا.
مستمعينا الأطايب !
شكراً علي كرم المتابعة ، وكونوا في انتظارنا في حلقة الأسبوع القادم من برنامج علي خطي النهج عند القسم الرابع والأخير من استعراضنا لنماذج استخدامات الجناس في نهج البلاغة ، وفي أمان الله وحفظه .