مستمعينا الأكارم في كلّ مكان !
يسعدنا أن نجدّد اللقاء بكم عبر هذه المحطة من برنامجكم الأسبوعي علي خطي النهج والتي سنتواصل فيها معكم عند أسلوب الجناس واستخداماته في نهج البلاغة ، آملين أن تمضوا معنا أحلي الأوقات وأطيبها ...
أعزّتنا المستمعين !
للجناس أنواع عديدة اجتمعات كلّها كأحسن ما يكون الاجتماع في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه حتي غدا هذا الكتاب مصدراً مهماً وأساسيّاً من المصادر التي يستند إليها علماء البلاغة والبيان والبديع في ذكر الأمثلة والنماذج علي ما يذكرونه من فنون البلاغة وصناعات البيان والبديع من مثل قوله سلام الله عليه في إحدي خطبه :
" أوصيكم عبادَ الله بتقوي اللهِ فإنها خيرُ ما تواصي العبادُ به وخيرُ عواقبِ الأمورِ عند الله ، وقد فُتِحَ بابُ الحرب بينكم وبين أهلِ القبلةِ ، ولا يحمِلُ هذا العلمَ إلّا أهلُ البَصَر والصّبرِ والعلمِ بمواضع الحقّ .
فالملاحظ أن اللفظتين البصر و الصبرتتكوّنان من إيقاعات صوتية متشابهة ، ورغم أنها اختلفت في مواقعها وتخالفت ، إلّا أن هذا التخالف لم يُفقِدها عنصر التشابه التكراري ، وربّما كان هذا التخالف هو الذي أدّي إلي التنوّع الموسيقي المنبعث منهما إلي الأذن ، فضلاً عن قيام المفردتين علي صوت واحد في نهايتيهما ، حيث أسهم ذلك في دعم البنية الموسيقية المتولّدة من الجناس المقلوب .
وممّا يجدر ذكره أن التناوب في مخارج الأصوات بين ( بصر ) و ( صبر ) أوجد انتظاماً صوتياً مقدّراً في إخراج النسق الصوتي الموسيقي المؤثّر ، فضلاً عن القيمة الدلالية ؛ فالبصر يشير إلي النظر في الأشياء ، والصبر يحمل معني التحمّل ، وفي ذلك يحصل تدرّج في الانتقال من الخارج إلي الداخل .
ويقول سلام الله عليه محذّراً وواعظاً : " إنّما حظُّ أحدِكم من الأرض ذاتِ الطولِ والعَرضِ قيدُ قدِّهِ متعفِّراً علي خدِّه .
ورد الجناس هنا بين الكلمتبن ( قدِّه ) و ( خدِّهِ ) ، حيث اتّفقت هاتان اللفظتان في كلّ الأصوات ما عدا الصوت الأول ، ونجد أنّ الصوت الأول من اللفظة الأولي جاء متقارباً في المخرج مع الصوت الأول من اللفظ الثاني أي القاف والخاء ، وكلاهما مفخّمان ، ولعلّ القرب في المخرج والتوحّد في الصفة جعلا الصوتين يشتركان في قيمة واحدة من حيث الأداء ، وفضلاً عن ذلك فقد سبق هذا الجناس بجناس آخر بين ( الأرض و العَرض ) ، والاختلاف حصل بين الهمزة والعين وهما متقاربان في المخرج أيضاً ، بالإضافة إلي التشابه في الصفة ؛ فالهمزة مرقّقة والعين بين الشدّة والرّخوة ، وكلّ هذه الخصائص جعلت الصفات المشتركة أكثر من المختلفة ، فأوجد ذلك بنية موسيقية مؤثّرة وموزّعة بتقنية عالية من الأداء ، لأن اللفظ المشترك إذا حمل علي معني ثم جاء والمراد به آخر لكان للنفس تشوّق إليه .
مستمعينا الأكارم !
حول الوقع الموسيقي اللطيف للجناس في الأذن ودور هذا الوقع في تثبيت المعني في النفس والذهن فيما ورد من كلام وأقوال مجنّسة في نهج البلاغة ، توجّهنا بالسؤال إلي خبير البرنامج علي الهاتف الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران ، فأفادنا في هذا المجال قائلاً :
نقشبندي: بسم الله الرحمن الرحيم لاشك أن الجناس يشكل الموسيقى الداخلية للنص الأدبي سواء كان في نهج البلاغة او في الشعر العربي او حتى في النثر. ونرى هذا واضحاً في كلام امير المؤمنين سلام الله عليه في نهج البلاغة والموسيقى الداخلية التي يشكل الجناس الوقع الداخلي لكلام الأمير سلام الله عليه. نرى هذه الموسيقى لها آثار خاصة على الأذن الانسانية ووقع خاص على النفس الانسانية لأنها تخاطب روح الانسان، تخاطب النفس الانسانية، تستقر فيها او تنبهها من الغفلة او تحاول إيقاظها من النوم ونماذجها كثيرة في نهج البلاغة، نهج البلاغة فيه من الحكمة والموعظة وحالات النفس الانسانية والموت والعقيدة وكل مافي العلم الالهي الشريف من الالهيات موجود في نهج البلاغة. ترى خطب الأمير تتنوع بتنوع هذه العلوم وكل خطبة بما فيها من معنى وإيجاز في اللفظ والجناس اللطيف والسجع اللطيف الذي يشابه القرآن وهو فعلاً تفسير آخر للقرآن. هناك من يقول لايوجد في القرآن سجع، السجع التكلفي الذي لايوجد في القرآن الذي يسمى في الجاهلية بسجع الكهنة اما السجع الفطري والسجع الذي الله سبحانه وتعالى خاطب به نبيه والرسول الأعظم خاطب به الناس من القرآن الكريم "والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى...." هذا كله سجع، ليس سجع تكلفي وإنما سجع فطري وهذا يتكرر في نهج البلاغة مثلاً "الحمد لله الذي لايبلغ مدحته القائلون ولايحصي نعماءه العادون ولايؤدي حقه المستهدون، لايدركه بعد الهمم ولايناله غوص الفطن الذي ليس لصفته حد محدود ولانعت موجود ولاأجل ممدود ولا وقت معدود" هذا كله سجع ولكن دون تكلف وإنما هو سجع فطري ينبثق من النفس المعصومة لتخاطب به الانسان وتقرأ به نفس الانسان وتخاطب فطرته السليمة. مثلاً في مواضع اخرى فيه نوع من الجناس التام، يصف فيها الدنيا سلام الله عليه "وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لايبصر مما وراءها شيئاً والبصير ينفدها بصره ويعلم أن الدار وراءها فالبصير منها شاخص والأعمى اليها شاخص والبصير منها متزود والأعمى لها متزود" هذا ما اصطلح عليه بالجناس التام.
المحاورة: مستمعينا الأفاضل نتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران لإتاحته لنا هذه الفرصة.
مستمعينا الأحبّة !
ومن أمثلة ما يسمّي بالجناس المحرّف في كلا أمير المؤونين عليه السلام ، قوله :
" صحّة الجسد من قلّة الحسد .
فنحن نلاحظ أن بين لفظتي ( الجسد ) و ( الحسد ) تماثلاً في رسم الحروف وتبايناً في وضع النقط ، ونري أن اختلاف الصوتين المترتّب علي وجود النقط وعدمها لم يؤثّرا في قيام مفردتين علي نسق من التكرار ، فالبني الصوتيّة الموحّدة أكثر من المختلفة ، والتشابه في هذه النسب حدّد جهة النغم والموسيقي .
ومن الجناس المقلوب ما ورد في قوله (ع) :
" العلمُ مقرونٌ بالعمل ، فمن علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحلَ عنه .
فقد ركّز الإمام سلام الله عليه في هذه الحكمة القصيرة علي اللفظتين العلم و العمل من خلال معودتهما مرّتين علي التوالي من دون أن نشعر بالرتابة لورودها ضمن أساليب بلاغيّة مختلفة منها ما هو خبري وما هو إنشائي ، فضلاً عن أن المتكلّم حاول أن ينوّع في مواقع الألفاظ المتجانسة علي وفق نظام متناوب من بداية النص وحتي نهايته .
كما ورد هذا النوع من الجناس ، أي الجناس المقلوب الذي يدلّ علي مهارة المتكلّم في التصرّف بفنون الكلام ، ورد في حكمة في كتاب له يقول فيه :
"أمّا بعدُ ، فإنّما مَثَل الدنيا مثل الحيّة ؛ ليّنٌ مسُّها قاتلٌ سَمُّها ، فأعرِض عمّا يُعجِبُك فيها لقلّة ما يصحبُك منها ... .
فلفظة ( مسُّها ) هي مقلوب لفظة ( سمُّها ) ، وبين اللفظتين فارق دلالي كبير يصل إلي مستوي التضادّ ، إذ إن ما توحي به لفظة ( مسّها ) يخالف ما أعطاه الجناس من دلالة تناقضيّة وذلك من اختيار لفظي دقيق حقّق له هذا الغرض في وصف الحيّة ، بأسلوب رمزيّ يراد منه انتقال الذهن من وصف هذا الحيوان الجميل والفتّاك في نفس الوقت ، إلي وصف الدنيا .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
من أنواع الجناس ما اصطلح عليه علماء البلاغة بـ الجناس الاشتقاقي ، وهو ما حدّثنا عنه وذكر لنا نماذج منه في نهج البلاغة خبيرُ البرنامج علي الهاتف الهاتف الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران ، فلنستمع معاً إلي ما ذكره في هذا المجال ...
نقشبندي: هناك نوع يطلق عليه الجناس الاشتقاقي، أن يكون اللفظان لهما أصل واحد في اللغة يعني تأتي بلفظين مثلاً قول عمرو بن كلثوم التغلبي "ألا لاأحد يجهل علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا" كلها مشتقة من جهل يجهل. نجد له نماذج في نهج البلاغة "من اعطي أربعة لم يحرم أربعة، من اعطي الدعاء لم يحرم الاجابة، من اعطي التوبة لم يحرم القبول ومن اعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة" الاستغفار والمغفرة. في موضع آخر يقول امير المؤمنين سلام الله عليه "قد بصرتم إن أبصرتم وقد هديتم إن إهتديتم وأسمعتم إن إستمعتم" او في كلام آخر "لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق" هنا كلمة خلق والمخلوق والخالق كلها مشتقة من فعل خلق. "كم من أكلة منعت اكلات" "ما كذبت ولاكذبت ولاضللت ولاضل بيّ" كلها واضح عليها الجناس الاشتقاقي ولها نماذج كثيرة في نهج البلاغة. كلام الأمير عليه السلام وامير الكلام كما يصفه شارح النهج في أحد مواضع شرح النهج حين يأتي الى شرح خطبة الهكم التكاثر حتى زرتم المقابر يقول عنه ابن ابي الحديد والله ما قرأت هذه الخطبة إلا وبكيت وكان امير المؤمنين لايقصد بهذه الخطبة إلا نفسي حيث يصف الموت بأبلغ الأوصاف وحيث تقرع كلماته النفس الانسانية ويستشعر الانسان حينها الخوف من الموت والتهيء للموت وسكرات الموت وكل ما في مسئلة الموت من معاني رهيبة وتقرع الانسان التحدث عن هذا الأمر إلا ويرتجف وترتجف فرائصه وترتعد من هذا الذكر الذي يصفه امير المؤمنين حين يفسر قوله تعالى اللهم التكاثر حتى زرتم المقابر. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
المحاور: حياكم الله مستمعينا الأفاضل أنتم معنا من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران ونشكر فضيلة الاستاذ علي النقشبندي الباحث الاسلامي من ايران.
مستمعينا الأطايب !
ومن أشكال الجناس التي نلحظ استعمالها في نهج البلاغة ، الجناسُ المضارع وهو مايكون باختلاف اللفظتين في حرفين مع قرب مخرجهما من مثل قوله تعالي في سورة الأنعام : " وهم ينهون عنه وينئون عنه ، ومن أمثلته في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله :
" من أطال الأملَ أساء العملَ .
حيث نلحظ الجناس قائماً بين الكلمتين ( الأمل ) و ( العمل ) في كل العناصر إلّا بين الهمزة في الكلمة الأولي والعين في الكلمة الثانية ومع ذلك فإن ما يجمعهما التقارب في مخرجي الحرفين حتي ليكاد هذا الجناس أن يتحوّل إلي جناس كامل .
وهناك نوع آخر من الجناس يسمّي الجناس الناقص ، وهو ما اختلف في واحد من الأمور الأربعة (نوع الحروف ، شكلها ، عددها ، ترتيبها) كقوله تعالي : " فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، ففي هذه الآية جناس بين الفعلين ( تقهر ) و ( تنهر ) ولكن الاختلاف في نوع الحرف بين القاف والنون جعل منه جناساً ناقصاً ، ومثاله في نهج البلاغة قولُ أمير المؤمنين عليه السلام :
" إنّ كلامَ الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً ، وإذا كان خطأً كان داءً.
فنحن نلاحظ هذا النوع من الجناس بين الكلمتين دواء و داء ولكنّ عنصر الاختلاف بينهما هو في عدد الحروف فضلاً عن الطرافة والمفارقة في استعمالهما فهما يعطيان معنيين متضادّين رغم التشابه اللفظة بينهما وعدم وجود اختلاف إلا في مكوِّن واحد من مكوّنات الكلمة وهو عدد الحروف كما ذكرنا .
مستمعينا الأحبّة !
انتظرونا في الحلقة المقبلة من برنامجكم علي خطي النهج لنكمل حديثنا حول الجناس وأنواعه في نهج البلاغة ، وروعة البيان في استخدام هذا اللون من الصناعات البديعيّة الهادف بالدرجة الأولي إلي تعميق تأثير الكلام في نفس المتلقّي من خلال توظيف هذه الأساليب ، حتي ذلك الحين نشكر لكم طيب المتابعة ، وفي أمان الله
.