مستمعينا في كلّ مكان ، مرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد الذي يجمعنا بحضراتكم عبر محطّة أخري من محطّات برنامجكم الأسبوعي علي خطي النهج والتي سنواصل فيها استعراض مظاهر استخدامات الكناية والمجاز في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في قسمها الرابع والأخير ، تابعونا بعد الفاصل .
مستمعينا الأفاضل !
من أقسام الكناية التي ذكرها علماء البلاغة ، الكناية التي يُراد بها نسبة أمرٍ لآخر, إثباتاً, أو نفياً, والمراد من هذه الكناية تخصيص الصفة بالموصوف لا عن طريق إثبات الصفة تصريحاً, بل عن طريق الكناية, وخير مثال على ذلك؛ قوله تعالى: " الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ.
فقد أراد التعبير عن يوم القيامة, لا بصريح اللفظ, بل بنسبة أوصافها وتأكيدها بالقارعة, كناية عن القيامة. ومثل هذا قول أمير المؤمنين عليه السلام : "كُنّا إذا احْمَرَّ البأْسُ, اتَّقَيْنا برسولِ الله, فَلَمْ يَكُنْ أحدٌ مِنّا أقَرَبَ إلى العَدوِّ مِنه .
ويقال: هو الموت الأحمر ـ أي البأس ـ والموت الأسود, ومعناه: الشديد, وقد يكون أصله مأخوذاً من ألوان السباع ؛ كأنّ الموت من شدّته سبع, إذا انقضّ علي الإنسان ، وفتك به...
وهكذا فإنّ قوله عليه السلام: (إذا احمرّ البأس) هو كناية عن اشتداد الأمر؛ حيث شبّه حمي الحرب بالنار التي تجمع الحرارة, والحُمرةَ بفعلها, ولونها.. ، وهذا يعني: كثرة الحرب فيها فتكون حمراء, والتعبير هنا مجازي. لكنّ معنى الشدّة هو الحملة في الحرب .
فقد أراد الإمام (ع) التعبير عن الحرب المروِّعة, والقتل الذي يريق الدماء, لا بصريح اللفظ , بل بنسبة أوصافه وتأكيده بـ(الاحمرار), كناية عن اشتداد الحرب , فقد أثبت هنا أمراً لأمر, وهو (اشتداد الحرب) وأصدائها بقرع القلوب بأهوالها, ووقعها, وذلك تفخيم لمعنى (الاشتداد) وتعظيم شأنه .
أعزّتنا المستمعين !
كان لنا سؤال طرحناه علي خبير البرنامج الاستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران علي الهاتف حول أقسام الكناية وأنواعها وذكر بعض الأمثلة عليها من النهج ، فتفضّل في هذا المجال قائلاً :
المحاور: نبث الآن على مسامعكم نص الحديث الذي أدلى به ضيف اللقاء الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من الجمهورية الاسلامية في ايران جواباً على سؤال طرحناه عليه حول اهمية الإيجاز والاختصار في اللغة العربية ولماذا كل هذا التأكيد عليه من قبل علماء البلاغة الى درجة اعتباره موازياً للبلاغة نفسها؟
نقشبندي: بسم الله الرحمن الرحيم طبعاً أهمية الإيجاز والاختصار تأتي أولاً في منع التكرار الممل وعدم الانحراف عن المقصود وثالثاً اللفظ الصحيح في المكان الصحيح يعني جزالة استخدام اللفظ الصحيح ما يعرف بجزالة اللفظ ورابعاً الدقة في أصالة المعنى لأن اللغة العربية لغة واسعة. نرى في اللغة العربية كلمة او لفظة تطلق على عدة معاني لذلك يقال في مسئلة الايجاز والاختصار لهذه الأسباب. نهج البلاغة كما وصف النهج من قبل جامعه الشريف الرضي لأنه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق وهو كلام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وكما وصفه الرسول الأعظم "علي مع القرآن والقرآن مع علي". وكما نعرف أن أفصح الكلام وأبلغ الكلام هو كلام الله سبحانه وتعالى وكلام المعصوم وكلام امير المؤمنين هو بيان نوع آخر من البيان البديع للفظ القرآن الكريم ومعاني القرآن الكريم فهو لايخرج عن معاني القرآن الكريم بأي صورة من الصور. نرى أنه استخدم في المواعظ والخطب وفي الوصايا وفي الكتب والكلمات القصار كل هذه المعاني وهي متطابقة بشكل من الأشكال مع القرآن الكريم بأبدع وأجزل اللفظ دون التكرار الممل ومطول بكلمات في غاية الدقة وغاية الإيجاز مع إصابة المعنى.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من الجمهورية الاسلامية في ايران.
مستمعينا الأطايب !
ومن الأمثلة والنماذج الأخري لاستخدام الكناية والمجاز في النهج قوله سلام الله عليه في وصف اشتداد الحرب مستخدماً في ذلك تعبيراً كنائيّاً في قوله : "الآن حَمِيَ الوَطِيْسُ... . وقيل إنّ الوطيس هو مستوقد النار ، وقيل هو . "الضرب الشديد بالخفّ وغيره, فيكون في هذا التعبير دلالة كنائيّة على اشتداد الحرب, واحتدام حركة الفرسان, والخيلُ أبلغُ , لأنّ حوافر الخيل في احتدامها, تضرب بشدةٍ الأرضَ التي تطؤها, فيسخن فيها الحصى, في حين يبقى هذا الحصى بارداً, إذا لم تطأه حوافر الخيل.
وشبيه بهذا قولُ الإمام , حينما أراد أن يحثَّ أصحابه على الجهاد حيث قال: "واللهُ مُستَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ, ومُوَرِّثكُمْ أمْرَهُ, ومُمْهلُكم في مِضْمارٍ محدودٍ, لِتتَنازَعوا سَبَقَهُ, فَشُدوا عُقَد المآزر, واْطوُوا فُضُولَ الخَواصِرِ, لا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَلِيمَةٌ, ما أنْقَضَ النَّوَم, لِعَزَائِمِ اليَوْمِ, وأمْحَى الظُّلمَ, لِتَذَاكِيرِ الهِمَمِ! .
وقوله: (مستأديكم): أي طالب منكم أداء ذلك, والقيام به, وقوله: (مورّثكم أمره): أي سيرجع أمر الدولة إليكم. ثم شبّه الآجال التي ضربت للمكلفين ليقوموا فيها بالواجبات, ويتسابقوا فيها إلى الخيرات, بالمضمار المحدود لخيل تتنازع فيه السبقَ .
وفي الكنايات الآتية, غرابة جاءت من تعدد وسائطها للوصول إلى معناها الأخير أولاً, ومن ابتكار هذه المعاني ثانياً. فقوله: (فشدّوا عقد المآزر)، كناية عن الأمر بالتشمير والاجتهاد في طاعة الله ـ عز وجل ـ والاستعداد لها. فشمِّروا عن ساق الاجتهاد, ويقال لمن يوصى بالجدّ والتشمير «أشدد عقدة أزارك» , لأنّه إذا شدّها, كان أبعد عن العثار, وأسرع للمشي , فلا عائق يعوق حركته, ومن هذه الحركة ، الحربُ في سبيل الله.
وقوله: (واطووا فضول الخواصر) كناية عن الأمر بترك ما يفضل من متاع الدنيا, والأخذ على قدر الحاجة من ألوان الطعام والملابس. والأصل في هذا النظم ؛ أنّ الخواصر والبطون, لها احتمال في أن تتسع لِمَا فوق قدر الحاجة من المأكول, فذلك القدر المتسع؛ هو فضول الخواصر.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
يحفل نهج البلاغة بالكثير من المجازات والكناية التي تبدو غريبة في ظاهرها ، طريفة مبتكرة وعميقة في حقيقتها ، حول هذا النوع من الكنايات والمجازات وأمثلتها في النهج .
المحاور: طلبنا من ضيف البرنامج على الهاتف الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران أن يستعرض لنا بعضاً من تلك الآيات في قصار كلمه عليه السلام وأن يشير الى مواطن الإيجاز فيها، فتفضل قائلاً:
نقشبندي: طبعاً قبل الكلمات القصار او نأخذ هذه الكلمة المعروفة عند الناس في خطبة الجهاد، يقول مولانا امير المؤمنين "ولكن لارأي لم لايطاع" او في موضع آخر يقول في وصيته للإمام الحسن "كم من عقل أسير تحت هواء امير". مع اختصار هذا الكلام ومع أنه لايتعدى جملة واحدة إلا أنه يتضمن معاني جداً رائعة. كما نعرف الآن في حكومات تكنوقراط نرى عقليات ضخمة وحجج في مختصات من العلوم تحت هوى امير او وزير لايعرف شيئاً عن وزارته وعن وظائف وزارته وعن عمق اختصاصات وزارته، هؤلاء يقعون أسراء تحت هواء هذا الأمير. او في مكان آخر من الكلمات القصار مع هذه الروعة من الجملة مثلاً في التوحيد يقول مولانا "التوحيد أن لاتتوهمه والعدل أن لاتتهمه" ذهبت بعض الفرق الاسلامية الى التعددية في صفات الله بينما مذهب أهل البيت يذهل الى أن جامع الصفات هو عين ذاته يعني عينية الذات والصفات ونسبة كل فعل حسن الى الله سبحانه وتعالى لكي يتبين ميزان التنزيه وعدم التشبيه المرفوضتان من قبل العقائد الاسلامية في مسئلة الصفات ومسئلة معرفة الذات. هذه المسئلة مع إختصارها تتضمن معاني جميلة جداً وهو ليس غريباً لأن هو الذي الذي تربى في أحضان الرسول صلى الله عليه وآله وهو المجسد للقرآن الكريم والمعصوم وكما قال الرسول الأعظم "علي مع القرآن الكريم". نذهب الى القرآن الكريم قيل "يا أرض إبلعي ماءك وياسماء أقلعي" "وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجود وقيل بعداً للقوم الظالمين". أختصرت جملة كبيرة وكتاب كامل عن احداث في جملة غاية في الدقة وغاية في الإيجاز تعبر عن حادثة طوفان كبيرة تتداول الى يومنا هذا. أسلوب القرآن الكريم من موعظي او تربوي او للعبرة، نرى في سورة يوسف، نرى نفس الموضوع في التوراة في سفر التكوين على ماأذكر إلا أن العبرة في سورة يوسف وحالة اللفظ وما أستخدم فيه من مواعظ اخلاقية وعبر انسانية وتاريخية وحالات النفس الانسانية والغرائز الحيوانية التي قد تستخدم والتي نهى الله عنها في سورة يوسف لانرى لها أثراً في سفر التكوين في التوراة.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الاستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران.
مستمعينا الأفاضل !
وقوله سلام الله عليه في النص الذي ذكرناه قبل الفاصل : (لا تجتمع عزيمة ووليمة) يضم كلمة العزيمة التي تعني الإرادة الجازمة للأمر بعد اختياره , وأراد بها هنا العزيمة على اقتناء الفضائل واكتسابها, وكنّى بالوليمة, وهي طعام العرس, ونحوه, عن خفض العيش والدعة لاستلزام الوليمة لذلك. والمعنى: أنّ العزيمة على تحصيل المطالب الشريفة وكرائم الأمور, ينافي الدعة, وخفض العيش و لا يحصل مع الهوينا, لِمَا يستلزمه تحصيلُ تلك المطالب, والعزمُ عليها, من المشاق, وإتعاب النفس, وكذلك البدن, بالرياضة والمجاهدة المنافية للدعة والراحة, ثم أكّد ذلك بقوله: (ما أنقضَ النومَ لعزائم اليوم).
والأصل في هذه الكناية الثانية : أنَّ الإنسان يعزم في النهار على المسير في الليل, ليقرب المنزل , فإذا جاء الليل نام إلى الصباح , فانتقض بذلك عزمه, فضُرِب هذا القول مثلاً لِمَنْ يعزم على تحصيل الأمور الكبار, والسعي فيها, ثم يلزم الأناة والدعة, ومراده: أنكم مع هذه الدعة, وحب الراحة من المتاعب, والجهاد لا يتمّ لكم ما تريدونه, وتعزمون عليه من تحصيل السعادة في دنيا وآخره .
وكذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: (وأمحى الظلمَ لتذاكير الهمم).فالأصل في هذه الكناية: أنَّ الرجل تبعثه همتُه في مطالبه على المسير في الليل, فإذا جنّ الظلام, أدركه الكسل, وغلبه حب النوم عن تذكّر مطالبه, وصرفه عنها, فكان الظلام سبباً لمحو ذلك التذكّر, فضُرِب مثلاً, لمن يدعوه الداعي إلى أمر, ويهتمّ به, ثم يعرض له أدنى أمر, فينصرف به عنه. ومعنى السياق الكلّي في هذا النصّ بما احتواه من الكنايات ، أنّه: لا يجتمع للناس دخول الجنة والدعة والقعود عن مشقة الحرب.
مستمعينا الأكارم !
دقائق ممتعة قضيناها معكم في حلقتنا لهذا الأسبوع من برنامج علي خطي النهج ، شكراً علي طيب المتابعة ، وكونوا بانتظارنا عند ظاهرة أخري من الظواهر البلاغيّة في النهج ...