قال المجاهد الحسيني الغيور عمرو بن قرضة الانصاري في رجزه بوجه عساكر البغي الأموي:
قد علمت كتائب الانصار
أني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام ليس بالفرار
دون حسينٍ مهجتي وداري
وقال الفارس الغيور الشهيد وهب بن عبد الله الكلبي وقد دعته أمه لنصرة أبي عبد الحسين -عليه السلام- في ملحمة الطف الخالدة:
إني زعيم لك أم وهب
بالطعن فيهم تارةً والضرب
ضرب غلامٍ مؤمنٍ بالرب
حسبي به مولاي فهو حسبي
بسم الله الرحمن الرّحيم… الحمد لله على جميع آلائه، وأزكى صلواته على أشرف أنبيائه، وعلى آله، أوصيائه وخلفائه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحية طيبة وأهلا بكم.
مستمعينا الكرام، لقد كانت ملحمة كربلاء فريدة، لم تشبهها واقعة سابقة، ولم تأت بعدها حادثة لاحقة. وكان من امتيازات هذه الملحمة، أنّها حوت ما لم تحوه أية ملحمةٍ أخرى على طول التاريخ… فكان فيها الخطب والحوارات، والمبارزة والجولات، وقد دخلها الفتيان والشيوخ والنساء، فضلاً عن الشبّان، وكان فيها الأبيض والأسود، والحرّ والمملوك المولى، والعربي وغير العربي… وإلى ذلك جرت فيها قصصٌ وحكايات، ومواقف عجيبةُ وكرامات، وأنشدت فيها قصائد وأبيات، ونظمت فيها أرجوزات.
نعم أعزائي الكرام، وقد تميزت أراجيز معسكر الإمام الحسين -عليه السلام- بتعريف الشهداء بأنفسهم، وإظهار شهامتهم وشجاعتهم، والإستعداد للتضحية من أجل المبادئ المقدسة بأرواحهم ومهجهم، فكانت الأبيات التي نظموها ارتجالاً لوحاتٍ تسطع بالعزّ والكرامة، والغيرة على الدين وعلى إمام المسلمين. ومن هنا إخوتنا الأفاضل أصبحت جديرةً بالوقوف عندها، وقد شكلّت تراثاً ولائياً كريماً احتوى عشرات القطع الشعرية التي تقيّم من خلال معانيها العقائدية ومواقف أصحابها الولائية الإيمانية… فقد قيلت في ساعة عسيرة ولم يكن بينها وبين القتل إلاّ دقائق ولحظات، ومن هنا كانت قيمة، إذ كانت مناصرةً للإسلام وللإمام الحقّ، وحجّة الحق، أبي عبد الله الحسين -صلوات الله وسلامه عليه-.
إخوتنا الأكارم… لما نظر الإمام الحسين -عليه السلام- إلى كثرة من قتل من أصحابه أخذ الرجلان والثلاثة منهم يستأذنونه في الذبّ عنه، حتى إذا قلّ عددهم وبان النقص فيهم، أخذ الأصحاب يبرز منهم الرجل بعد الرجل، فخرج مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر وأبوثمامة الصائدىّ… فقاتلوا حتّى استشهدوا. وتقدّم عمرو بن قرظة الأنصاري يستأذن إمامه الحسين -سلام الله عليه- في قتال، فلمّا أذن له برز هذا المؤمن الغيور وهو يصدع بأرجوزته قائلاً:
قد علمت كتائب الأنصار
أنّي سأمحي حوزة الذمّار
ضرب غلامٍ غير نكسٍ ساري
ضرب غلامٍ ليس بالفرّار
دون حسينٍ مهجتي وداري
وجاء في بعض المصادر أنّ الشطر الأخيرهكذا:
دون حسينٍ بهجتي وداري
والبهجة: هي شدّة السرور، أمّا المهجة: فهي الروح. وقد كتب ابن نما رحمه الله في(مثيرالأحزان) يقول: إنّ الشاعر عمرو بن قرظة بهذا الشطر الأخير عرّض بعمر بن سعد حين رفض عرض الإمام الحسين -عليه السلام- وذلك عندما اعتذر عمر بن سعد عن الالتحاق به بأنّه يخاف على داره، فأجابه الحسين -عليه السلام-: أنا أعوضّك، فاعتذر مرّةً أخرى بعذرٍ آخر: أخاف على مالي…
نعم وأين هذا الجبان المتخاذل أمام أطماعٍ دنيويةٍ موهومةٍ زائلة لم ينلها، قتل من أجلها ولي الله وأهل بيته وأصحابه، فدخل في أعظم غضبٍ لله تعالى، بينما كان عمرو بن قرظة قد طلّق الدنيا وتوجّه لمرضاة الله عزّ وجل، فهو ذو بصيرة وذو قلبٍ مؤمن اندفع به إلى حملةٍ شنّها على أهل الكوفة في معركة الكرامة بطفّ كربلاء، وهو يرتجز قائلا:
آل علي شيعة الرحمان
وآل حرب شيعة الشيطان
وعلى هذا الاعتقاد قاتل عمرو بن قرظة حتى اثخن بالجراح، فهوى الى الأرض وعيناه شاخصتان في وجه إمامه الحسين وشفتاه تتمتمان: أوفيت يابن رسول الله؟! فيكرمه إمامه أبو عبد الله -عليه السلام- بهذا الجواب المبهج : "نعم، انت أمامي في الجنة، فاقريء رسول الله عني السلام، واعلمه أني في الأثر".
وكتب أصحاب المقاتل أنّ الحرّ الرياحي لمّا استشهد برز بعده برير بن
خضير الهمداني، فإذا استشهد برز شابُّ اسمه: وهب بن عبدالله الكلبي، وكانت أمه معه يومئذٍ فقالت له: قم يا بني فانصر ابن بنت رسول الله، فقال هذا الشابّ النبيل لها: أفعل يا أمّاه ولاأقصّر. فبرز وهو يرتجز مخاطباً قتلته عمّا قريب:
إن تنكروني فأنا ابن الكلبيّ
سوف تروني وترون ضربي
وحملتي، وصولتي في الحرب
أدرك ثأري بعد ثأر صحبي
وأدفع الكرب أمام الكرب
ليس جهادي في الوغى باللّعب
ولست بالخوّاف عند الحرب
فهذا الشابّ الغضّ لايكتفي أنّه يبرز وحده لمقاتلة العشرات والمئات الذين أقبلوا عليه بسيوفهم ورماحهم يحيطون به ويتحينون فرصة الغدر به، بل تقدمّ يتحدّى ويوعد بضرب ثائرٍ لثأر.
وإذا كان أهل الجاهلية أصحاب ثأرٍ على باطل، وفي انتقامٍ أهوج يطال الأبرياء، فإن الثأر في الإسلام- أيها الإخوة الأعزة- هو حكمُ شرعي ينزل قصاصاً على قتلة المسلم والمؤمن، والمتجاوزين على حرمات الدين وأنفس المسلمين. ووهب بن عبد الله الكلبي -رضوان الله عليه- قد حمل سيفه أكثرمن هدف، فشهر بيده يذبّ عن إمامه، وعن الإسلام، وينتقم للشهداء أصحاب أبي عبد الله الحسين -عليه السلام-، وجميع ذلك أهدافٌ مقدسّة، واصل التقدمّ نحوها بروحية عالية، يحمل على الأعداء، فلم يزل يقاتلهم بشجاعة، حتّى قتل منهم جماعة، ثمّ عاد إلى أمّه وزوجته يطمئنهما، منادياً على أمه:
يا أمّاه! أرضيت؟ فأجابته: ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين.
لكنّ زوجته رجته قائلةً له: بالله لاتفجعني في نفسك. فقالت له أمّه: يا بني لاتقبل قولها وارجع. فرجع وهبٌ يقاتل بين يدي الحسين وهو ينشد أمّه أرجوزته الأخرى، يطمئنها هذه المرّة أنّه لن يعود إليها إلاّ شهيداً، قائلاً لها:
إنّي زعيمٌ لك أمّ وهب
بالطعن فيهم تارةً والضّرب
ضرب غلامٍ مؤمنٍ بالربّ
حتّى يذيق القوم مرّ الحرب
حسبي به مولاي فهو حسبي
وجعل وهبٌ يقاتل حتّى قتل -رضوان الله عليه-.
هذا وقد دخلت امرأته إلى ساحة المعركة وهي تحمل عمود الخيمة تضرب به الأعداء، وهي تقول مناديةً على وهب: فداك أبي وأمّي، قاتل دون الطيبين حرم رسول الله، فنادى عليها الحسين: «جزيتم عن أهل بيتي خيرا، إرجعي إلى النساء -رحمك الله-».
إخوة الإيمان، وها أنتم تلاحظون ما يعبر عنه رجز الشهيدين عمرو بن قرضة الأنصاري ووهب بن عبد الله الكلبي من قوة الثقة بالله في أنصار سيد الشهداء- عليه السلام- وصدق يقينهم بضلالة من خالفه -عليه السلام- وأن من عادى محمداً وآله -عليه وعليهم السلام- هم جند الشيطان -عليه وعليهم لعائن الرحمن-.
ونحن نصل الى ختام الحلقة الثانية والعشرين من برنامج هديرالملاحم إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران، تقبل الله منكم طيب الإستماع، ودمتم في رعاية الله وحفظه. الى اللقاء.