وفي قصيدة اخرى من قصائد رائعته الخالدة (حديقة الحقيقة) يتحدث سنائي الغزنوي عن الموت، وما ينطوي عليه من دروس وعبر وعظات معتبراً اياه قنطرة ينتقل من خلالها الانسان من هذه الدنيا الدنيّة المحفوفة بالمكاره، والشهوات، والبلايا الى دار الخلود والبقاء والسعادة.
شريطة ان يكون الانسان متزوداً الى هذه الدار بالاعمال الصالحة، وان يكون متهيئاً لدخولها بما يقدمه من حسنات وخيرات، والاّ فان الموت قد يكون وبالاً عليه، وسبيلاً الى جهنم وبئس المصير، كما يقرر سنائي ذلك في قوله:
يا حكيماً عاش في هذي الحياةْ
انت ان مُتَّ وخلّفتَ الحياةْ
فُزتَ في دنيا بقاءٍ آمناً
فاهجُر الدنيا تنلْ احلى حياةْ
ليس في دنياك هذي من أملْ
لا ولا من راحةٍ للروح تُرْجى
انّها ذئبٌ اخو غدرٍ، وهل
لقطيع من شرور الذئب مَنْجى؟
انّما دنياك هذي مُلئتْ
بذئابٍ جائعاتٍ غادرهْ
فالام المرءُ يبقى راعياً
دون اجرٍ ككلابٍ صابرهْ؟!
ايّها الانسانُ حان الوقت لكي
تنقل المنزلَ منها مسرعا
انّ ما شيّدْتَه من اعظمٍ
فانطلقْ منه كَمَنْ قد فُزِّعا!
ومن الجدير بالانسان ان هو امعن النظر قليلاً في حقائق الامور، وغاص في دقائقها وخفاياها، ان لايخشى الموت لانه ليس سوى ظاهرة طبيعية تغشى بدن الانسان.
وعليه بدلاً من ذلك ان يخشى امر هذه الدنيا التي ديدنها الخدع والمكر، والممتلئة بكل ما هو فتن - على حد تعبير الشاعر-، والتي هي مجرد ممر الى دار الخلود والبقاء، حيث يجد الانسان السعادة الحقيقية، والفوز الاكبر:
لاتخفْ موتك فيها ابداً
انّه الموت الذي يغشى البدنْ
لاتخفْ منه وخف امّا تخفْ
امر دنيا مثلُها مثل النتنْ
وهي ليست ابداً الاّ ممرْ
على ان شيئاً من التشاؤم والسوداوية يخالط نظرة سنائي الغزنوي الى هذه الدنيا، فهو يرى في الموت منجاة من الدنيا التي هي في نظره سجن، وابناؤها أُسارى مرتهنون في هذا السجن.
وهو حسب رؤيته وسيلة للخلاص من شرور بني البشر، فلماذا - اذن- لايعزم الانسان على الرحيل من هذه الدنيا، ولماذا لايستعد لمغادرتها؟ خصوصاً وانها لاتنطوي الا على الوعود الكاذبة، والاماني الخداعة.
انّ في موت الاُسارى للبدنْ
الفَ منجاةٍ فهل يدري الاسيرْ؟
آه لو يعلم من عانوا المحنْ
كيف يغدو عيشهم عيشَ الامير
بعد هذا الموت من شرّ البشرْ
فلتشدّ الآن عزماً للرحيل
هاجراً عيشاً به كنتَ الذليلْ
لم يكن غير وعودٍ خُلَّبٍ
ولَكَمْ يحلو بأُخراكَ المقيلْ!
ليس فيها من شقاءٍ وكدرْ
ويستمر سنائي في حديقة حقيقته على عادة الزاهدين والعرفاء في ترغيب الانسان في الموت باعتباره مرحلة ينتقل من خلالها الى دار الخلاص والراحة من شرور الدنيا الى حيث عالم الارواح الطاهرة النقية والى حيث النجاة من آلام ومصائب الحياة، ومن المغترين بالدنيا، المخدوعين بها، والغارقين في شهواتها وملاذها.
ودنو الانسان من الموت هو من جهة نظر الشاعر اقترابٌ من عالم السعادة والهناء، حيث السرور الدائم، والفرح الغامر الذي لاتكدّر صوفه منغصات الحياة، والعالم الطهر المبارك الذي لا يمكن ان تلوّثه نجاسات الدنيا:
فاذا ساقتْك أملاكُ الردى
من اعزائك جمعاً سوف تلقى
عالم الارواح هذا والنّهى
كم به تلقى عن المهجور فَرْقا؟!
واذا ما قادك موتٌ لديارِهْ
سوف تنجو من بتاريح الحياةْ
وستنجو من اناسٍ غَرّهُمْ
من دنايا عيشهم ادنى فُتاتْ
عندما يدنو اليك الموتُ فاعلمْ
انّما انت الى دنيا السعادهْ
راحلٌ قلبُك عمّا كان مغرمْ
هاجرٌ رهطكَ في احلى وفادهْ
وحده الموتُ سبيلٌ موصلٌ
روحَك الظمأى الى دنيا الهناءْ
انّه عالمك الاطهرُ فاهنأْ
طالما جُزْتَ له درب الفناءْ
والرحيل عن هذه الدنيا يعني - كما يقرر الشاعر في ابيات اخرى من منظومته- التحرر والانعتاق، وانقضاء عهد الهموم والاحزان، وبداية عهد جديد مفعهم بالمسرات واليُسْر، فمن سوى الموت ينقذ روح الانسان من سجن الجسد، ومن غيره ينتشلها من وهدة التراب، ومستنقع الشهوات؟!
وهو السبيل الوحيد للخلاص من الاناس الاشرار الذي يشبههم الشاعر بالكلاب، وهو الملاذ الوحيد الذي يحتمي بواسطته الانسان الصالح المتقي من الذين اساؤوا الى المعنى الحق للحياة، وكأنّ الشاعر يشير بذلك الى ظروف عصره حيث التكالب على الدنيا، وحيث التنافس البغيض، وحيث التقاتل على زخارفها الزائلة كما توحي لنا بذلك الابيات التالية:
وحده الموتُ الذي تسمو به
تاركاً مستنقعاً يدعى الحياةْ
انّه الموتُ اساسٌ ابداً
لبقاءٍ وحياةٍ مُشتهاةْ
موطنُ العجز، ودنيا الضعفِ امّا
رحتَ منه صرتَ في الآخرِ حرّا
كلّ ما عانيته عجزاً وهمّاً
سوف تلقاه مسرّاتٍ ويسرا
مَنْ سوى الموتِ سيشري منك جسماً
هاتفاً في مسمعٍ من روحك هيّا؟
سوف يُعليكَ كما يُنْجيك حتماً
من مكوثٍ في ثرىْ سمّوْه دنيا
انّها دنيا كلابٍ هَرِمَهْ
ليس من حامٍ غير المماتْ
انّها كانت وتبقى مظلمهْ
بأناس دنّسوا معنى الحياةْ
انت لن تنجو الاّ بمماتٍ
من الدّاء وأُناسٍ اراذلْ
دارُهم دارٌ لعار التسمياتِ
كم بغتْ فيها وكم سادتْ اسافلْ!
*******