في هذه الحلقة نكمل حديثنا عن قصة الشاهنامة لابي القاسم الفردوسي وكيفية تأليفه لها، والمصادر التي استند اليها، فنقول في هذا المجال..
كان ابو منصور محمد بن احمد الدقيقي شاعر بلاط السامانيين ايّام منصور بن نوح مشغولاً بنظم شاهنامة ابي منصور الذي سبقت الاشارة اليه، الا انه قتل على يد غلام تركي مخلّفاً وراءه قصة (جَشْتاسب واَرْجاسب) في الف بيت.
فلما علم الفردوسي بذلك شدّ رحاله الى بخارى عاصمة بني سامان ليحصل على الكتاب الذي كان ينظمه الدقيقي ولم يوفق، وجدّ في البحث عن نسخة منه في كل مكان الى ان تحققت امنيته على يد صديق حميم من اهل بلدة فسرّ بذلك غاية السرور.
ولكن موت الدقيقي، وبُعْد الشُّقة، وتقدّم الايام به، كل ذلك جعله تحت تأثير خوف دائم من ان تنقضي مدّته دون اداء الرسالة التي وقف حياته عليها.
فمضى في طريقه لايلوي على شيء، وصرفه تفرّغه الكلي الى نظم كتاب الملوك عن تدبير امر معاشه، فاحتاج الى راعٍ يكفيه عوز الفاقة، وييسر له الفراغ لما كرّس وجوده له.
فكان اول رعاته امير لم يصرح الشاعر باسمه وان تغنى بمدحه، وذكر مآثره عليه، فرثاه وبكاه في لوعة وحسرة عصرتا قلبه، واجرتا دمعه مزيجاً بدمه.
ولكن العناية هيّأت له راعيين آخرين، احدهما ابو دلف علي الديلمي من كبراء المدينة، وحُيَيْ بن قتيبة والي طوس، فحسن حاله، وعاش في خفض من العيش مكّنه من المضي الى غايته، فكانت رائعته الخالدة (الشاهنامة)، او ملحمة الملوك التي قدّر لها ان تكون من بين الكتب المعدودة التي خلدها التاريخ على مرّ العصور.
يبدأ شاعرنا الفردوسي منظومته بمقدمة يسبّح فيها للخالق تعالى، ويمجد العقل، ويتحدث عن ايجاد العالم، وخلق الناس والشمس والقمر، ويمدح النبي صلى الله عليه وآله، ثم يتطرق الى جمع الشاهنامة، ويقدّم ترجمة موجزة للدقيقي.
وتستغرق هذه المقدمة 237 بيتاً يشرع بعدها في نظم كتاب الملوك، فيعرض امام اعيننا طليعة الركب الاسطوري لبناة الحضارة متمثلين في كيومرث اول ملوك الفُرس، وسيامك وهوشنك، وطهمورث، وجمشيد.
ويمثل هذا الشطر من الشاهنامة عصر الملكية الموحدة، العصر الذي كان يحكم العالم فيه ملك واحد يخضع له الانس والجن والحيوان على السوية، ويسوس الناس ويعلمهم على حد رواية الفردوسي.
وفي هذا العصر لبس الانسان جلود السباع، وعرف النار واقام اول الاعياد ابتهاجاً بظهورها من ضمير الصخر، واستخرج المعادن، واتخذ الآلات من الحديد، وزرع الارض، ودجّن الحيوان وما الى ذلك.
ويبلغ طول هذه الحقبة على ما يقول الفردوسي ثمانمائة عام، ولعلها تمثل عهد المجتمع البشري الموحّد.
ثم تأتي بعد ذلك قصة ملك اسطوري اسمه الضحاك تتلخص في ان ابليس تبدى له في صورة ناصح امين زين له قتل ابيه وكان ملكاً صالحاً متعبداً، لينفرد هو المُلك، فلما تمّ له ذلك ظهر ابليس مرة اخرى في هيئة طاهٍ ماهر اعدّ للضحّاك الواناً شهية من الطعام.
وكان الناس قبل هذا يعيشون على طعام واحد، فشغف الضحاك بطاهيه، وسأله اي امنية يتمناها ليحققها له، فلم يطلب الطاهي اكثر من تقبيل منكبَيْ مليكه، فما فعل حتى نمت في منكبي الضحّاك افعيان لاتُسْتأصلان حتى تعودا من جديد.
وجاء في امرهما الحكماء والاطباء، واذا بابليس يطرق باب الملك طبيباً مداوياً، ويشير عليه باطعام كل من الحيّتين مخّ آدمي كلّ يوم لتهدءا، ويستريح من اذاهما، فيقتل الضحّاك كل يوم رجلين.
وفي اواخر عهد الضحّاك - على ما يروي لنا الفرودسي في الشاهنامة- نرى رجلاً حداداً ثائراً لان الضحّاك قتل احد ولديه فيمن قتل ليُطعم دماغه الحيتين، ثم جاءت القرعة على ابنه الثاني، فثار وجمع حوله الشعب الثائر، والتفّ الثائرون حول افريدون حفيد جمشيد وقضوا على ذلك الملك الغشوم.
وليس هذا الثائر الاّ بطلاً شعبياً يمثل غضبة الشعب على الظلم والطغيان، ولكنا نرى فيما بعد ابطالاً محاربين خاضوا الحروب بأنفسهم وحموا ذمار امتهم، وحملوا عروش الملوك على اكتافهم.
بدأ ظهور هؤلاء الابطال على مسرح الشاهنامة في عهد منوجهر حفيد افريدون، واهمّ ابطال الشاهنامة ثلاثة هم، رستم واسفنديار من الايرانيين، وافراسياب من التورانيين.
الا ان بطل ابطال الشاهنامة دون شك هو رستم، وعلى يده قتل اسفنديار، وانهزم افراسياب البطل التوارني عدة مرات، وقتل آخر الامر بعد حروب طويلة.
واجتمعت لرستم هذا من حيث الشجاعة، والقوة، ووثاقة التركيب، وطول العمر، وخوارق الاعمال جميع مقومات الابطال الاسطوريين.
وتتلخص قصة رستم في ان سام بن نريمان بهلوان العالم في عهد منوجهر سأل الله ان يرزقه ولداً، فولدت امرأته طفلاً جميلاً غير ان شعره كان ابيض كشعر الشيوخ الطاعنين في السنّ، فظن ذلك من غضب الله عليه لذنب جناه.
فكره الطفل، وأمر به، فحُمل وأُلقي في شعاب الجبال، فرأته العنقاء فأشفقت عليه، وحملته الى وكرها، وربّته حتى شبّ بين افراخها، وكانت القوافل تعجب لوجود هذا الآدمي بين الطير، وتروي حديثه.
ورأى سام رؤيا عُبّرت له بان ابنه مازال حياً، فخرج للبحث عنه في شعاب الجبال ضارعاً الى الله تعالى ان يردّ اليه ولده، ولمّا رأت العنقاء حيرته، وعرفت غايته، اخبرت ربيبها بأمر ابيه، واعطته من جناحها ريشة، واوصته بأحراقها اذا ما احتاج الى معونتها فتأتيه في الحال، وحملته وهبطت به الى حيث والده، ووضعته بين يديه فشكر لها سام صنيعها.
وبلغ الملك منوجهر قصة سام وولده، فاستدعاهما، واعجب بالولد، وطلب المنُجّمين، فتنبّؤوا له بسعادة الطالع، واوصى منوجهر اباه بتربيته احسن تربية ليشتد به عضد الملك.
*******