وكان أبان من أبرز علماء المسلمين وأنبههم في ذلك العصر، ويقول المترجمون له أنه كان مقدماً في كل فن من العلوم في القرآن والحديث، والأدب واللغة والنحو.
ومما يدلل على سمو مكانته العلمية أنه كان إذا قدم إلى يثرب تفوضت إليه الحلق العلمية، وأخليت له سارية النبي (صلى الله عليه وآله) ويحف بها الفقهاء والعلماء للاستفادة من ثرواته العلمية.
وقد روى عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وروى عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد روى عنه ثلاثين ألف حديث وقد قال (عليه السلام) لأبان بن عثمان: إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث فاروها عنه، وروى سليم بن أبي حية قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فلما أردت أن أفارقه ودعته، وقلت: أحب أن تزودني، فقال: ائت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني.
وكان أبان موضع اعتزاز الأئمة وفخرهم وذلك لما يملكه من ثروات علمية بالإضافة لما يتمتع به من التقوى والورع والتحرج في الدين، وكان إذا وفد على الإمام الصادق (عليه السلام) قابله بمزيد من العناية والتكريم فكان يصافحه ويعتنقه، ويرحب به، ويؤمر له بوسادة، وكان الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يقول له: (اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك..).
ودل هذا الحديث على اجتهاد أبان، وأنه أهل للفتيا بين الناس كما دل على اعتزاز الإمام به، وقال له الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام):
وقال له: (جالس أهل المدينة فإني أحب أن يروا في شيعتنا مثلك..).
لقد اعتز الأئمة (عليهم السلام) بهذا العالم العظيم الذي حوى علومهم وسار على منهجهم، واقتدى بسيرتهم.
وأجمع المترجمون لأبان على وثاقته وأمانته وصدقه في نقل الحديث، ولم يجرحه أحد من هذه الجهة، ولكن جماعة جرحوه لحبه أهل البيت (عليهم السلام) فقد قال الجوزجاني: إنه زائغ مذموم المذهب مجاهر وقال الذهبي: إنه شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه، وعليه بدعته، وأضاف قائلاً: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة، والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟
وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين، وتابعيهم، مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط من أبي بكر وعمر والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة ولا يحمل هذا الرأي أي طابع من الموضوعية، فإن التحقيق العلمي يقضي بقبول قول الثقة الصادق الذي يتحرج من الكذب، ولا اعتبار بالنزعات العقائدية في ذلك.
وقد أنعم الله على أبان بمعرفته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام)، وقد حفظ علومهم وآدابهم، واجتهد في فقههم، وراح يفتي الناس به، ويحل مشاكلهم على ضوئه كما راح يتحدث في أندية الكوفة ومجالسة بفضائلهم، ويحاج وينظر خصومهم وأعداءهم، في وقت كان من يذكرهم بخير يتعرض لأشق ألوان المحن والخطوب فقد جهد الأمويون على التنكيل وإنزال أقسى العقوبات بمن يحبهم ويواليهم ولكن أبان قد وطن نفسه على ذلك لأن حبه لم يكن عاطفياً، وإنما كان قائماً على الفكر والدليل، فالكتاب والسنة قد فرضا على المسلمين الولاء لهم، وجعلت ذلك جزءاً من الإسلام لا ينفك عنه.
وعلى أي حال فقد كان أبان شديد الولاء لأهل البيت وكان يرى فضل الصحابة، وسمو منزلتهم بمدى اتصالهم بالعترة الطاهرة فقد روى عبد الرحمن بن الحجاج قال: كنا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له: (يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)؟...).
وأدرك أبان مراده فأجابه: وكأنك تريد أن تعرف فضل علي بمن تبعه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
وأسرع الشاب قائلاً: (هو ذلك..).
فأجابه أبان جواب العارف بحق الإمام (عليه السلام) قائلاً: (والله ما عرفنا فضلهم - أي الصحابة - إلا باتباعهم إياه).
حقاً لقد كان الإمام أمير المؤمنين رائد الحكمة والعدالة في الإسلام هو المقياس الذي تعرف به قيم الرجال، فمن أخلص له فهو على جانب كبير من الفضل، ومن عاداه فقد انحرف عن الحق، ومال عن القصد.
ومن مظاهر ولاء أبان للسادة الأطهار من عترة النبي (صلى الله عليه وآله) أنه مر على قوم فأخذوا يعيبون عليه لأنه يروي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فسخر منهم وقال:
(كيف تلوموني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)).
إن روايته عن الإمام الباقر (عليه السلام) كانت تتصل بالرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهي أوثق الروايات وأصحها سنداً.
وألف أبان مجموعة من الكتب دلت على سعة علومه ومعارفه، وهذه بعضها:
۱- تفسير غريب القرآن: ذكر شواهده من الشعر، وجاء فيما بعد، عبد الرحمن ابن محمد الأزدي الكوفي فجمع من كتاب أبان ومحمد بن السايب الكلبي، وابن رواق بن عطية كتاباً واحداً.
۲- الفصائل ولعله عرض فيه لفضائل أهل البيت (عليهم السلام).
۳- الأصول في الرواية على مذهب الشيعة.
ولقد توفي هذا العملاق العظيم سنة (۱٤۱هـ) وكان موته خسارة كبرى للإسلام، وقد حزن عليه الإمام الصادق، وراح يقول بأسىً وحزن: (أما والله لقد أوجع قلبي موتُ أبان..).
*******
المصدر: موقع www.۱٤masom.com.