المقدمة
قال فتى الحسين _عليه السَّلام_ وأول شهداء الهاشميين يوم عاشوراء شبيه المصطفى، وسيف المرتضى، ونور الزهراء، مولانا علي الاكبر، وقد برز لمجاهدة اليزيدين في ميادين الطف:
أنا علي بن الحسين بن علي
من عصبة جَدُّ أبيهم النبي
نحن وبيت الله أولى بالوصي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي
أطعنكم بالرمح حتى ينثني
طعن غلام علوي قرشي
من آل بيت الهاشمي اليثربي
بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله الذي جعلنا لمحمّدٍ وآله محبّين، ولأعدائهم وقتلتهم مبغضين، ولشعائر الله معظّمين مقيمين" . إخوتنا الأعزّة الموالين.. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعظّم الله أجورنا وأجوركم بحلول شهر الحسين الذّي فجعت مصيبته السماوات والأرضين، مخلّفةً في القلوب أحزاناً عميقة، وفي النفوس عواطف رقيقة، وفي التاريخ صفحاتٍ مشعّةٍ نيرة تهدي إلى الحقّ والكرامة، وتجذب الأرواح التي تطالعها بأنغامها المفتخرة، من خلال تلك الأراجيز التي ألقيت في ساحة الطّف العظمى يوم عاشوراء … وهي الأشعار العذبة في معانيها، الشديدة في وقعها على المسامع، ذات الأوزان الخفيفة التي تناسب أغلب الأصوات الصادرة عن حركة الإنسان، لا سيما في ساحة القتال.. وقد سهل على الكثير نظمها لبساطة الوزن وسهولة التغيير في تفعيلاتها ورويها.. فالوحدة الوزنية من الأرجوزة هي (مستفعلن)، تأتي ثلاثاً في صدر البيت وثلاثاً في عجزه، ويمكن أن تأتي اثنتين باثنتين، ويمكن أن يتألف البيت الواحدة منها مرّتين. ويمكن أن يقال – أيها الإخوة الأفاضل – أنّ الأرجوزة أصبحت قبل الإسلام سلاحاً نفسياً يواجه به العدوّ في ساحة المعركة قبيل الاشتباك وحتّى خلاله، فليكن هذا السلاح في اختيار المسلم المدافع عن حرمات دينه وحياة رسالته ورسوله، يقابل به أعداء الله، معدّاً إياه استجابةً لأمر الله تبارك وتعالي: " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الانفال ٦۰ )، فإذا كانت الأرجوزة عاملاً لإرهاب عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ المسلمين، والآخرين الذين من دونهم، فليتيسّر للمؤمن المقاتل في سبيل نصرة الإسلام، ومن تحقيق أهدافه المقدّسة، كما استفاده أمير المؤمنين عليٌّ _عليه السَّلام_ في معاركه المظفّرة – كما في معركة الأحزاب المنتصرة. روى الشيخ المجلسيّ أعلى الله مقامه في (بحار الأنوار) عن مصادر تاريخيةٍ وثيقةٍ ومؤرخين معروفين كآبن إسحاق أنّ عمرو بن عبد ودّ العامريَّ، نادى يوم الأحزاب: من يبارز؟ فقام عليٌّ _عليه السَّلام_ فقال: أنا له يا رسول الله، فقال له النّبيُ صلى الله عليه وآله: إنّه عمرو، إجلس. فنادى عمرو: ألا رجل، ثمّ أخذ يسبّ المسلمين ويؤنّبهم: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟! فقام عليُّ بن أبي طالبٍ _عليه السَّلام_ فقال مصرّاً مصمّماً: أنا له يا رسول الله. ثمّ نادى عمروٌ الثالثة قائلاً هذا الرّجز المتحدّي:
و لقد بححت من النداء بجمعكم: هل من مبارز؟
ووقفت إذ جبن المشجَّع موقف البطل المناجز
إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز
فقام الإمام عليٌّ لا يطيق سماع ذلك، فواجه عمراً بعد أن استأذن رسول الله، يناديه ماشياً إليه في ساحة النزال:
لا تعجلنَّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ والصّدق منجي كلِّ فائز
إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربةٍ نجلاء يبقى ذكرها عند الهزائز
فكانت أرجوزةً خذلت عمراً، وهيأته لقتلةٍ نكراء انهار بها جيشه بعده. ذلكم كان – إخوتنا الأفاضل – عليّ بن أبي طالب، الذي درج نسله الطيب المبارك على خصاله الشامخة، فكان دويه سلام الله عليه يسمع في كربلاء ينطلق من حفيده عليّ الأكبر _عليه السَّلام_ ، من خلال قعقعة سيفه مرّة، ومن خلال أراجيزه مرّةً أخرى، وهو يقول معرّفاً بنفسه مرّة، ومتحدّياً للمنافقين مرّةً أخرى ؛ وهو يقاتل بين يدي أبيه الحسين _عليه السَّلام_
أنا علي بن الحسين بن علي
من عصبة جد أبيهم النبي
نحن وبيت الله أولى بالوصي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي
أطعنكم بالرمح حتى ينثني
طعن غلام علوي قرشي
من آل بيت الهاشمي اليثربي
هكذا ارتجزها الأكبر، أبياتاً فاخرةً مفتخرةً توقظ العقول التي أخملها حبّ الدّنيا حتّى نسيت أين هي وماذا هي عليه، وإلى أيّ صفّ كفرٍ ونفاق انحدرت تقاتل آل النبيّ، وأبناء الوصيّ، وعصبّةً جدُّها رسول الله، تأبى أن تذلّ إلى دعيٍّ ابن دعيّ، كعبيدالله بن زياد، ويزيد بن معاوية، ماذا حدا بالقوم فانحازوا إلى زمرة الظلم والفساد والجاهلية الأولى، حتّى تغابوا عمّا يواجهون، وكأنّ عليّ الأكبر _عليه السَّلام_ ينبّههم إلى مواقفهم مواقف الخسّة والخيانة، ويتحدّاهم إذا أصرّوا ويعلمهم أن لا يتوقّعوا منه إلّا ضرباً بسيفه يحمي به الإمامة الإلهية المتجلّية في ريحانة المصطفى أبي عبدالله الحسين، وطعناً برمحه لا يملّ حتّى يعوجّ في صدور البغاة المقبلين على قتل وليّ الله، سبط رسول الله… ذلك لأنّ الأكبر، من البيت الذي هو بيت الوحي والرسالة، والنبوّة والإمامة، والشرف والكرامة، إنّه:
شبيه المصطفى خَلقاً وخُلقا
سليل المرتضى روح الحسين
أجل.. هو روح الحسين، ومهجة قلبه، ذلكم الحسين الذي قطع أوهام الطامعين ببيعته لطاغية الشام وفاسقها، فخاطب والي المدينة بقوله: إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ شارب الخمر، وقاتل النّفس المحترمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله ! . وخطب _عليه السَّلام_ ثابت الجأش يسمع أعداءه وقتلته بعد سويعات: ألا إنّ الدعيَّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين: بين السّلّة والذّلّة، وهيهات منّا الذّلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حمية، ونفوسٌ أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام… وعلى هذه الروح كان الأكبر عليُّ بن الحسين.. فهذا الشبل من ذاك الأسد، وكفى!
ايها الأفاضل، أما الآن، فنلخص أهم القيم الإلهية التي خلدها مولانا فتى الحسين علي الأكبر _عليه السَّلام_ تذكرة للأجيال في ملحمته التي سطرها يوم عاشوراء. أولاً : بعث روح الإفتخار النسبي والمعنوي للنبي الأكرم – صلى الله عليه وآله – وصدق الإلتزام بمنهجه وسنته كمعلم أساسي للولاء الحق. ثانياً : البراءة الخالصة من (الأدعياء) أي من ذيول الذين حاربوا النهج المحمدي الأصيل في الجاهلية وعندما دخلوا الإسلام نفاقاً وهم الذين وصفهم القرآن الكريم بالشجرة الملعونة. ثالثاً : التأكيد على أن نهج الوصي المرتضى إنما هو إستمرار لنهج النبي المصطفى – صلى الله عليه وآله. رابعاً : بعث روح الدفاع الصادق عن الإمام الحق الذي هو أبو الأمة بشخص سيد الشهداء الإمام الحسين _عليه السَّلام_ .
والى هنا نصل أيها الأعزاء الى ختام الحلقة الثانية في برنامج هدير الملاحم تستمعون له من إذاعة طهران تقبل الله أعمالكم والسَّلام عليكم.