حيث الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، وحيث الاسلوب الادبي الفاخر، والبيان البليغ المعجب، والبلاغة الواضحة الصادرة عن معين خالص، صاف هو معين الاثر الايجابي الخلاق الذي تركه الاسلام في النفوس.
في رائعته الادبية العرفانية (مصيبت نامه) يسلط فريد الدين العطار النيسابوري الضوء على كيفية خلق الانسان منذ ان كان نطفة في قرارة الارحام، وحتى وصوله سن البلوغ.
وهو يحاول ان يدفع الانسان، ويثير في نفسه الدافع الى التأمل والتفكير في امر النفس، وامر هذا الكون، لان هذا التفكير هو السبيل الوحيد للوصول الى الحقيقة، ثم يتناول خلال ذلك المدارج المختلفة للسير والسلوك، من مرحلة الطلب، وحتى الوصول الى المعبود، والالتقاء به.
وبذلك فان همّه الاساسي في هذا الكتاب هو العثور على اجابات شافية لتساؤلاته المتمثلة في التوصل الى الكيفية المثلى للتقرب الى الحق تعالى.
وكما اشرنا في حلقة البرنامج السابقة فاننا نرى العطار يولي وجهه بادئ ذي بدء صوب ملائكة الله المقربين كجبرائيل، واسرافيل، وعزرائيل علها باعتبارها كائنات مقربة الى الحضرة الالهية، عليمة باسرار هذه الحضرة، وسبل التقرب منها ان تمنحه بصيصاً من نور وهو يتخبط في ظلام البحث عن الحقيقة.
الا انه سرعان ما يكتشف ان هذه الكائنات لايمكنها ان تقدم له الاجابات الشافية على تساؤلاته رغم انها من سكان الملأ الاعلى، وانها محيطة بالعرش ليل نهار، مسبحة بحمد الخالق دون انقطاع.
والسبب في ذلك على ما يبين لنا العطار هو انها تمثل عقلاً محضاً مجرداً من العواطف، والمشاعر، وهمسات القلوب وخلجاتها، وقدرتها في لحظات التسامي والشفافية على اقتناص الحقيقة الخالصة دون ان تشوبها شائبة من احكام العقل الصارمة الجافة.
ولذلك اخوتنا المستمعين نرى سالك طريق العرفان يزداد وضوحاً وبصيرة كلما امعن في رحلته الباحثة عن الحقيقة، وكلما ازدادت تساؤلاته، وعثر على اجابات اكثر عنها، حتى يصل الى حقيقة ان الروح المجردة عن الجسم واثقاله هي وحدها القادرة على ادراك الحقيقة، والتخلص من وطأة الشكوك، ومعاناة الظن والتساؤل، وآلام الحيرة والاضطراب.
ولذلك نرى العطار يهتف بهذه الحقيقة قائلا على لسان السالك الذي اصبح الآن مقتنعاً بهذه الحقيقة بعد رحلته تلك:
(انّه ماضٍ الآنَ ليستبدلَ الروحَ بالجسم
وليُوصِلَ الجسم بالروحِ قبِلَ ان يحلُّ أجلُهُ...).
وهكذا يمضي السالك في رحلته، قاطعاً طريقاً مليئاً بالاسرار، حتى يصل في نهاية المطاف وبعد حيرة متواصلة، واضطراب مستمر، واجتياز مراحل مختلفة الى روحه التي تمثل في الحقيقة وجوده، وكيان نفسه، فيرجع اليها، وبعد صمت طويل ينطلق لسانه قائلا:
(لقد اثبتت لي التجربةُ
انّكِ شُعاعُ من شمسِ الحقيقة الازليّة
ان تجسُّمكِ لايمكنُ لا في العقل،
ولا في الذهنِ، ولا في ايّ مكانٍ آخر..).
(... لقد طرقتُ كلّ الابواب،
وجُلتُ في جميع ارجاء العالم
الاّ انني لم اصلْ الى مرادي ومقصودي
فهل بامكانك ان تحققي لي مُراد قلبي
وتقرّبيني الى الحضرة الالهية؟!)
واما الروح او النفس التي تمثل حقيقة وجود الانسان وكينونته، فانها وبعد ان يلازمها صمت طويل تهمس في اذن السالك مجيبة:
(لقد جُلْت كلّ هذا الجولان في العالم
وضربتَ برأسك في عُرْض الابواب والجدران
ومررت على كلّ الاشخاص والمواضع
ولكنك لم تفكّر يوماً، ولم يطرُقْ بالك
ان ترجعَ اليّ
ومع ذلك فانّك سلكتَ الطريق الصحيح
رغم انك قد اكتشفت الحقيقة متأخّراً
فاعلم ان مفتاح مشكلتك عندي...).
وهكذا فان الانسان عندما يعود الى ذاته، فانه سوف يجد هدفه في هذه الذات، بل انه سوف يجد فيها خالقه تعالى، ايضا كما يشير الى ذلك القرآن الكريم في قوله:
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
وعلى هذا فان على الانسان ان يعرف نفسه اولاً، ذلك لان روح الانسان هي شعاع من الذات الالهية المقدسة، وفي هذه الحالة وحدها يمكن للانسان ان يعرف بارئه، ومن خلال هذه المعرفة يصبح بامكانه ان يتعرف على كل شيء من حوله في الآفاق.
وعندما يكتشف السالك هذا السرّ الكبير تنتابه الحيرة الممزوجة بالدهشة، ويغمره نشاط وسرور لايمكن وصفهما يدفعانه الى ان يهبّ من موضعه ليتصل ببحر حقيقته الوجودية.
ويكشف لنا فريد الدين العطار في ختام منظومته (مصيبت نامه) عن الحكمة الكامنة وراء هذه المسيرة التي لابد ان يمرّ بها الانسان الذي يريد ان يسلك طريق الحقيقة، فيقول في هذا المجال ان الكنز لايمكن ان يحصل عليه الا الانسان الذي يعرف قدره، وقيمته، والا الذي يتحمل في سبيل الحصول عليه الآلام، والمعاناة لكي يذوق حلاوة نيل هذه الضالة، ولكي يعرف قدرها فيكون ذلك دافعاً له لان يتمسك، ويتشبّث بها اكثر، كما يحدثنا بذلك العطار قائلا على لسان النفس او الروح الانسانية:
(قالت الروح للانسان ان ما عانيته في رحلتك
سببه لانني بمثابة كنزِ قد حصلتَ عليه
فاذا ما حصل الانسان على كنزٍ بالمجّان
فانه لايمكن ان يعرِفَ قدرَهُ ولو بمقدارِ ذرّة
ان المطلوبَ لاتُعْرَفُ قيمتهُ الاّ اذا كان كنزاً
والا اذا عانى الانسان في سبيله الآلامَ...).
*******