من بين النساء الاخريات اللاتي يورد ابن طيفور في كتابه بلاغات النساء جانباً من اخبارهنّ ونوادرهن في الفصاحة والبلاغة، والجرأة في قول الحق، والجهر بمعايب الحكام الفاسقين الظلمة.
سَودَةُ بنت عمارة التي خلد لها التاريخ موقفاً شجاعاً وجريئاً في الدفاع عن الحقّ واهله متمثلاً في اهل البيت عليهم السلام وعلى رأسهم امير المؤمنين علي بن ابي طالب صلوات الله وسلامه عليه.
لقد وقفت سَودَة هذا الموقف ازاء معاوية بعد ان استفزّها، وحملها على ان تقول ما قالته ظناً منه ان هيبة الحكومة ستأخذها، وان ارادتها ستخونها، ويشلّ الخوف لسانها عن النطق بالحق.
الا ان الدوائر سرعان ما تدور على الباغي، فاذا بها تجهر بكلمة الحق، وتهدر بالحقيقة، وتمزق حجب الخوف، وتحطم جدران التردد لتنطق بكلام رائع يزدان بلاغة، ويتختر فصاحة.
فلنستمع معاً الى مادار بينها وبين معاوية كما يروية لنا ابن طيفور:
(استأذنتْ سودة بنت عمارة بن الأسك على معاوية ابن ابي سفيان فأذن لها، فلما دخلت عليه قال: هيه يا بنت الأسك ألست القائلة يوم صفّين:
شمّر كفعل أبيك يا ابن عُمارةٍ
يوم الطّعان وملتقى الاقران
وانصر عليّاً والحسينَ ورهطه
واقصد لهندٍ وابنها بهوانٍ
انّ الامام اخو النبيّ محمدٍ
عَلَمِ الهُدى، ومنارةٍ الايمانِ
فَقِهِ الحتوفَ وسرْ أمام لوائه
قدماً بأبيض صارمٍ وسنان
فقالت بنت عمارة: اي والله ما مثلي من رغب عن الحق او اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟
قالت: حبّ علي عليه السلام، واتباع الحق، ثم ان معاوية سألها عن حاجتها فقالت له شاكية فظائع، وجرائم قوّداه: لايزال يقدم علينا من ينوء بعزّك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البعر، هذا بسر بن ارطأة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، واخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة...
ويستشم معاوية رائحة التهديد، والتلويح بالثورة من لهجة سودة، فيهددها بدوره ولكن من موقع السلطان القاهر الفتّاك المالك لرقاب رعيته، الفاعل بهم ما يشاء، فتبكي المرأة المسكينة وتنشد قائلة:
صلّى الالهُ على جسمٍ تضمنّه
قبرٌُ فأصبح فيه العدلُ مدفونا
قد حالف الحقّ لايبغي به بَدَلاً
فصار بالحق والايمان مقرونا
ويتساءل معاوية متجاهلاً عن هذا الشخص الذي امتدحته بنت عمارة ببيتيها السابقين فيجيئه الجواب صاعقاً ماحقاً: عليّ بن ابي طالب!، فتعقد الدهشة لسان معاوية، وترتسم على وجهه علامات الاستفهام حول هذا الشخص الذي ملك القلوب، وسحر الالباب، ونفذ الى اعماق الافئدة، وجلس على عرش الصدور، واحبّه المظلومون، فتسرد له سودة موقفاً من مواقف عدله ونصرته للمظلوم فتصدع قائلة:
(قدمت عليه في رجل ولاّه صدقتنا قدم علينا من قبله فكان بيني وبينه ما بين الغثّ والسمين، فأتيت علياً عليه السلام لأشكو اليه ما صنع بنا فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر اليّ انفتل من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟
فأخبرته الخبر، فبكى، ثم قال: اللهمّ انك انت الشاهد عليّ وعليهم أني لم آمرهم بظلم خَلْقك، ولا بترك حقك...
وتتحدث سودة بنت عمارة بأسلوبها البليغ الجريء كيف ان علياً عليه السلام عزل في الفور ذلك الموالي المتلاعب بأموال المسلمين قائلا له: (اذا قرأت كتاب فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام).
وازاء هذه الصراحة في اللهجة، والجرأة اللامحدودة في الجهر بكلمة الحق، وعدم المبالاة بعواقب الامور مهما كانت لا يملك معاوية سوى ان ينصاع لارادة هذه المرأة الشجاعة البطلة، فيكتب لها بردّ اموالها، والعدل عليها، الا انها ترفض الا ان يكون هذا العدل عميماً، لايشملها فحسب وانما سائر قومها ايضا، فيكون لها ذلك.
وشبيه بذلك ما يرويه لنا ايضا ابن طيفور في كتابه بلاغات النساء عن بكارة الهلاليّة التي كانت هي الاخرى من جملة النساء اللواتي نصرن الامام علياً عليه السلام في حروبه ضد معاوية بن ابي سفيان، وكان لهنّ مواقف بطولي مشرّفة من بينها ابيات شعر بليغة دعت من خلالها الى نصرة امير المؤمنين عليه السلام، وعبرت عن حبها وولائها له، والبراءة من اعدائه كقولها تحثّ زوجها على نصرة امامه ومولاه:
يا زيدُ دونك فاستثير من دارنا
سيفاً حساماً في التراب دفينا
قد كان مذخوراً لكلّ عظيمة
فاليوم ابرزه الزمان مصونا
وقولها تذمّ بني امية، وتهجوهم، وتُبدي عجبها، ودهشتها من هذه الدنيا التي تولّي زمام الامور لمن لا يستحقها:
قد كنت آملُ ان اموتَ ولا أرى
فوق المنابر من امية خاطبا
فالله أخّر مدّتي فتطاولتْ
حتى رأيتُ من الزمانِ عجائبا
في كلّ يوم لا يزال خطيبهم
وسط الجموع لأل احمد عائبا
*******