نرحب بكم اجمل ترحيب ونحن نلقتيكم مرة اخرى متفيئين دوحة اخرى من دوحات تراثنا الحضاري الذي اغنى به علماؤنا، وادباؤنا، ومفكرونا التراث الانساني للبشرية على مرّ العصور والدهور.
وكلنا امل ان تقضوا معنا لحظات حافلة بالفائدة الممتعة انطلاقاً من ايماننا بضرورة التعريف بماضينا المشرق لبناء مستقبل اكثر ازدهاراً، واشراقاً.
من بين الكتب المبتكرة من نوعها، الطريفة في بابها والتي اُثِرَت عن رجال العلم والمعرفة المسلمين.
كتاب (بلاغات النساء) لمؤلفه ابي الفضل احمد بن ابي طاهر طيفور الخراساني الذي يعدّ احد المؤرخين المعروفين من كتّاب العصر العباسي الثاني.
ينحدر اصل هذا المؤرخ والكاتب من اسرة ايرانية من منطقة (مرو الرود)، وولد ببغداد سنة اربع ومائتين.
وكان اول امره مؤدباً عاميّاً، ثم اشتغل بالتأليف، واتخذ له حانوتاً بسوق الوراقية، فاشتهر امره.
الا انه لمّا الّف كتاب (سرقات الشعراء) كثر اعداؤه، ورموه بقلّة بضاعته في الشعر والضعف في النحو.
ومع ذلك فان المنصفين من المؤرخين اثنوا عليه من مثل المسعودي الذي ذكر بعض شعره، وكذلك الخطيب البغدادي، كما نقل عنه الذهبيّ في اكثر من موضع من السِّير، وذكر نتفاً من شعره وادبه.
وقد ذكر له ابن النديم خمسين كتاباً منها، تاريخ بغداد الذي يعتبر اقدم ما وقف عليه المؤرخون من تاريخها، ويحتوي على تاريخ بغداد والدولة العباسية من سنة اربع ومائتين الى وفاة المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين، وهو احد المصادر التي اعتمد عليها الطبري في تاريخه.
ومنها ايضاً كتاب (المنثور والمنظوم) في اربعة عشر جزءاً بقي منها جزءات احدهما الحادي عشر، وكتاب (بلاغات النساء) قطعة منه.
وكتاب المؤلفين، وسرقات الشعراء الذي حرض الناس على اتهامه والنيل منه. توفي ابن طيفور الخراساني ببغداد سنة ثمانين ومائتين من الهجرة.
يقرر ابو الفضل الخراساني في مقدمة كتابه (بلاغات النساء) ان كتب الادب قبله حفلت بكثير من الصور والنماذج الادبية الرفيعة لعدد ليس بالقليل من النساء الاديبات بدءاً من العصر الجاهلي.
ويعد الرثاء الغرض الذي برزت فيه النساء على الرجال، وتقدمن فيه بلا منازع كما نلاحظ ذلك من خلال النصوص التي اوردها ابن طيفور عن النساء الاديبات اللاتي احصاهن.
ولا ريب في ان الخنساء شاعرة الجاهلية والاسلام هي سيدة هذا المقام، ومرثيتها في اخيها صخر مشهورة اشهر من نار على علم، ولاسيما قولها فيه:
وانّ صخراً لمولانا وسيّدُنا
وانّ صخراً اذا نَشْتُوا لنَحَارُ
وانّ صخراً لِتأتمّ الهداةُ به
كأنّه عَلَم في رأسهِ نارُ
لم تره جارةٌ يمشي بساحتها
لريبةٍ حين يُخلي بَيْتَهُ الجارُ
فاذا تركنا الخنساء الى غيرها من النساء الشاعرات اللاتي رويت لهنّ اشعار في الرثاء، فاننا نجد عدداً كبيراً من النساء قد اجدن في ذلك، منهن من خلّد التاريخ ذكراهنّ، ومنهنّ من قصر المأثور عن التعريف بهنّ، وتخليد اسمائهنّ.
فمن ذلك ما يذكره لنا ابن طيفور عن سودة بنت عمارة في رثاء علي عليه السلام:
صلّى الالهُ على جسمٍ تضمّنه
قبرٌ فأصبحَ فيه العَدْلُ مدفونا
قد حالف الحقّ لايبغي به بدلاً
فصار بالحقِّ والايمانِ مقرونا
واذا ما تركنا الرثاء الى غيره من الاغراض كالفخر، فاننا نجد ان الفخر يلي الرثاء في انواع الاغراض التي اجادت فيها النساء شعراً ونثراً.
ويروي لنا مؤلف كتاب (بلاغات النساء) الكثير من النماذج النثرية والشعرية الرفيعة لنساء اجدن في هذا اللون من الادب كقول احدى النساء في زوجها: (زوجي رفيع العماد، عظيم الرماد، طويل النّجاد، قريب البيت من الناد).
وفي هذا الوصف من البلاغة مافيه، حيث كنّتْ بقولها: (رفيع العماد، طويل النجاد) عن شرفه وتقدّمه على قومه في الحسب والنسب.
وكنّت بقولها: (عظيم الرماد) عن كرمه لان كثرة الرماد دال على كثرة الايقاد، وكثرة الايقاد دالة على كثرة الطبخ، وهو بدوره دال على كثرة استضافة الضيوف.
ومن امثلة الفخر بالولد التي يذكرها ابن طيفور في كتابه، قول عارية بنت قزعة في ابنها رَوْس:
اَشْبَهَ روسٌ نفراً كراماً
كانوا الذُّرى الانفَ والسّناما
كانوا لمن خالطهم اداماً
كالسَّمْن لما خالط الطّعاما
لو ريشاً لكنتُ من قُدّاما
او طائراً كنت او اغناما
صقراً اذا لاقى الحمام اعتاما
رأى قِطّاً غدوةً او سمانا
فانفضّ واحتمّ لها احتماما
وفي الادب الاجتماعي كالوصايا
وشكوى الولد والزوج وغير ذلك، يورد ابن طيفور طائفة من الاقوال والاشعار تدل على ان للنساء كعباً عالياً في البلاغة والفصاحة، فليس مثلهنّ اذا اشتكين، وليس مثلهنّ اذا اوصيْن.
فمن ذلك مارواه صاحب الكتاب عن الاصعمي قال: سمعتُ امرأة توصي ابناً لها واراد سَفَراً فقالت:
(اي بنيّ! اوصيك بتقوى الله، فان قليله اجدى عليك من كثير عقلك، وايّاك والنمائم فانها تورث الضغائن، وتفرّق بين المحبيّن، ومثّل لنفسك مثال ما تستحسن لغيرك، ثمّ اتخذه اماماً...) .
(... وما تستقبح من غيرك فاجتنبه، وايّاك والتعرض للعيوب فتصيّر نفسك غرضاً، وخليق ان لا يلبث الغرض على كثرة السهام، وايّاك والبخل بمالك، والجود بدينك...).
*******