في المقامة الكوفية يحدثنا بديع الزمان الهمدانيفي كتابه (المقامات) على لسان راويته (عيسى بن هشام) ثم على لسان بطل رواياته (ابي الفتح الاسكندري) قائلا:
(كنت وانا فتيّ السنّ اشدّ رَحْلي لكلّ عماية، وأركض طِرْفي الى كل غواية، حتى شربت من العمر سائغه، ولبست من الدهر سابغه، فلما انصاح النهار بجانب ليلي، وجمعت للمعاد ذيلي، وطئت ظهر المروضة لاداء المفروضة، وصحبني في الطريق رفيق لم انكره من سوء، فلما تجالينا، وخبرنا بحالينا، سفرت القصة عن اصل كوفيّ، ومذهب صوفيّ، وسرنا فلما احلّتنا الكوفة مِلْنا الى داره، ودخلناها وقد بقل وجه النهار، واخضرّ جانبه...).
(... ولمّا اغتمض جفن الليل وطرّ شاربه، قُرِعَ علينا الباب، فقلنا: من القارع المنتاب؟
فقال: وفد الليل وبريده، وفَلُّ الجوع وطريده، وحُرٌّ قاده الضُرّ، والزمن المرّ، وضيف وطؤه خفيف، وضالّته رغيف، وجارٌ يستعدي على الجوع، والجيب المرقوع، وغريب اوقدت النار على سفره، ونبح العواء على اثره، ونبذت خلفه الحُصّيات، وكُنِسَت بعده العَرصَات، فنِضْوه طليح، وعيشه تبريح، ومن دون فرخَيْه مهامِه فيح...).
ويستمرّ بديع الزمان بسرد قصة ذلك الطارق الغريب بعباراته، وجمله الفصيحة البليغة، وبكلماته والفاظه الداعية الى الدهشة والاعجاب بهذه القدرة الفائقة على الاتيان بضروب الكلام، وفنون التعبير الامر الذي يجعل من مقاماته تلك مدرسة لتعلّم اساليب البيان، والمفردات والمعاني الغزيرة مما لابد منه لكل من اراد ان يتبحر في الادب.
يقول البديع مستأنفاً سرد مقامته الكوفية:
(قال عيسى بن هشام: فقبضت من كيسي قبضة الليث، وبعثتها اليه وقلت: زدنا سؤالاً نزدك نوالاً، فقال: ما عُرِضَ عَرْفُ العود على احرّ من نار الجود، ولا لُقي وفد البِرّ بأحسن من بريد الشكر، ومن ملك الفضل فليؤاس فلن يذهب العُرْف بين الله والناس، وأمّا انت فحقّق الله آمالك، وجعل اليه العليا لك...).
(...قال عيسى بن هشام: ففتحنا له الباب وقلنا: ادخل، فاذا هو والله شيخنا ابو الفتح الاسكندري، فقلت: يا أبا الفتح! شدّ ما بلغت منك الخصاصة، وهذا الزيّ خاصّة، فبتسم وانشأ يقول:
لا يغرّنك الذي
أنا فيه من الطلبْ
أنا في ثروةٍ
تُشَقُّ لها بُردةُ الطَربْ
انا لو شئت لاتّخذت
سقوفاً من الذهبْ
انا طَوْراً من النبيطِ
وطوراً من العربْ
)وبهذه الابيات يختتم الهمداني مقامته الكوفية بعد ان يستعرض لنا شيئا من قدراته اللغوية والتعبيرية، وبعد ان يقدم للقارئ دروساً نخالها مفيدة نافعة لطالب الادب، والباحث عن العبارات الانيقة، ومواطن الفتنة والجمال في التعبير.
علماً ان من بين الاهداف التي توخّاها بديع الزمان الهمدانيمن وراء تأليفه لهذه المقامات التي يعدّها علماء اللغة، والناقدون النواة لفن القصة في الادب العربي، هو ان تكون ما يشبه الدروس لمن اراد ان يُتْقِن فنّ التعبير والكتابة.
هذا بالاضافة الى انه اراد ايضاً - وهو عالم اللغة والاديب والناقد- ان يستعرض وجهات نظره، وآراءه في الادب والادباء، والشعر والشعراء، قديمهم وحديثهم، وطارفهم وتليدهم، ويبثّ رؤاه في نظرية الالفاظ والمعاني وايّهما افضل، واجدر بان يصبّ عليه الاديب اهتمامه، أم انهما متساويان في القيمة والمنزلة.
ومن بديع مقامات بديع الزمان الهمداني ، وطريفها، المقامة القرديّة التي يقدم لنا فيها شخصية استاذه ابي الفتح الاسكندري في صورة اخرى هي صورة القرّاد الذي يعتاش على اضحاك الناس، والقيام بالحركات الهزلية امامهم.
الافضل ان لانستبق الاحداث، وان نستمع الى احداث هذه القصة من كتاب المقامات نفسه، فتابعونا:
(حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا أنا بمدينة السلام، قافلاً من البلد الحرام، أميسُ مَيْسَ الرّجْلة على شاطئ الدّجْلة، اتأمّّل تلك الطرائف، واتقصّى تلك الزخارف، اذ انتهيت الى حلقة رجال يلوي الطرب اعناقهم، ويشق الضحك اشداقهم فساقني الحرص على ما ساقهم...).
(حتى وقفت بمسمع صوت رجل دون مرأى وجهه لشدّة الهجمة، وفرط الزّحمة، فاذا هو قرّاد يرقص قرده، ويُضْحك من عنده، فسرت سير الاعرج فوق رقاب الناس يلفظني عاتق هذا لسرّة ذلك، حتى افترشت لحية رجلين، وقعدت بعد الأيْن، وقد اشرقني الخجل بريقه، وارهقني المكان بضيقه...).
(.... فلما فرغ القرّاد من شغله، وانتفض المجلس عن اهله قمت وقد كساني الدّهش حُلّته، ووقفت لأرى صورته، فاذا هو والله ابو الفتح الاسكندري، فقلت: ما هذه الدناءة ويحَك؟! فأنشأ يقول:
الذنبُ للأيامِ لا لي
فاعتِبْ على صَرُفِ الليالي
بالحُمْقِ ادركْتُ المُنى
وَرَفْلتُ في حُلَلِ الجمالِ
)ومن بين المقامات الطريفة الاخرى التي تطالعنا في كتاب بديع الزمان بحلاوة عباراتها، واشراقة ديباجتها، وأناقة الفاظها، وفصاحة وبلاغة كلماتها ومعانيها.
المقامة الاذربيجانية حيث يلقي عيسى بن هشام عصا الترحال في ارض اذربيجان حيث الجبال والمرتفعات، واعتدال الطقس والهواء، بعد ان ازعجته نوائب الدهر وطوارقه عن ارضه ودياره، فاضطر لمغادرتها، وانتهى به الترحال الى تلك الارض.
*******