هذه الرائعة تتمثل في تحفة الادب والبلاغة. كتاب (مقامات بديع الزمان الهمداني). مؤلف الكتاب'>مؤلف الكتاب هو ابو الفضل احمد بن الحسين الهمذاني المعروف بـ (بديع الزمان).
وُلِدَ بديع الزمان سنة 357هـ بمدينة همدان، ونشأ فيها وترعرع، وتلقى العلم على يد ابن فارس صاحب كتاب (المجمل)، وبرع في اللغة والادب.
فارق بديع الزمان همدان سنة 380هـ وهو لا يزال في ريعان الشباب، وحلّ بالري، واتصل فيها بالصاحب بن عباد، فاستفاد من علمه وادبه، واخذ عنه صناعة الترسل.
ثم انتقل الى جرجان، وخالط فيها اتباع المذهب الاسماعيلي، فاخذ عنهم كثيراً من آرائهم، وتأثر بثقافتهم.
وقصد بعد ذلك نيسابور، فسطا عليه اللصوص في الطريق وابتزوا ثيابه وماله، وبلغها سنة 382هـ، حيث املى فيها اربعمائة مقامة لم تصلنا كلها.
حاول البديع الاتصال بابي بكر الخوارزمي الذي كان يتربع على عرض الادب في ذلك الوقت، ولكن ما ان التقيا حتى كان بينهما جفاء اخذ يزداد حتى تحول الى مهاترات.
ولم يقف الامر عند هذا الحد فقد ازداد الجفاء، وتفاقمت حتى كان العداء الذي استحكم واشتد مؤدياً الى المناظرة الشهيرة التي جرت بين الاديبين الكبيرين، والتي انتصر فيها البديع على ابي بكر.
وطار صيت البديع بعد ذلك، واقبل الناس عليه، وحسنت حاله، وعاش في رغد من العيش، ثم رحل الى خراسان وسجستان وغزنة ولقي الامراء والوزراء والرؤساء، ونال عطاياهم.
واخيراً استقر بديع الزمان في هرات، وتزوج بنت احد اشرافها، فغني، واقتنى كثيراً من الضياع، وعاش في رخاء حتى توفي سنة 398هـ.
كان بديع الزمان ذكياً، قوي الذاكرة، قوي الشكيمة بالعربية، مطلعاً على الفارسية وآدابها، وقد لخص الثعالبي صاحب يتيمة الدهر ميزاته فقال:
(لم يروا ان احداً بلغ مبلغه من لبّ الادب وسره، وجاء بمثل اعجازه وسحره، ولم يلف نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، فانه كان صاحب عجائب، وبدائع، وغرائب، فمنها كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي اكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها، ويؤديها من اولها الى آخرها، وينظر في اربع او خمس اوراق من كتاب لم يعرفه، ولم يره نظرة واحدة ثم يمليها عن ظهر قلبه...) .
(... وكان يقترح عليه عمل قصيدة او انشاء رسالة في معنى بديع فيفرغ منها في الوقت والساعة، وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جرا الى الاول، ويخرجه كأحسن شيء واملحه، وكان على ذلك مقبول الصورة، خفيف الروح، حسن العشرة، عظيم الخلق، شريف النفس...).
ولبديع الزمان ديوان شعر مطبوع بعض قصائده خالية من التكلف، وبعضها مغرق فيه.
وله في النثر رسائل مجموعة في اغراض شتى منها الشكوى والعتاب والسؤال والاعتذار والاسترضاء والتهنئة والمديح.
واهم ما اشتهر به بديع الزمان مقاماته التي تعدّ آية من آيات البلاغة في الادب العربي بما اشتملت عليه من فنون البيان، وزخارف الكلام، وبما حفلت به من اساليب ادبية، ومفردات لغوية ثرة، ومعلومات ادبية قيمة لاغنى لطالب الادب عنها.
المقامة الاولى تطالعنا في كتاب المقامات لبديع الزمان الهمذاني هي المقامة القريضية نسبة الى القريض وهو الشعر، حيث يتحدث لنا فيها عن الشعر والشعراء، ويحاول ان يعقد المقارنة والمفاضلة بينهم باسلوبه الحافل بالسّجع، الزاخر بالمفردات والالفاظ حيث يحدثنا على لسان راويته عيسى بن هشام قائلا: (طرحتني النوى مطارحها، حتى اذا وطئت جرجان الاقصى، فاستظهرت على الايام بضياع اجلت فيها يد العمارة، واموال وقفتها على التجارة، وحانوت جعلته مثابة، ورفعة اتخذتها صحابة، وجعلت للدار حاشيتي النهار، وللحانوت بينهما...) .
(... فجلسنا يوماً نتذاكر القريض واهله، وتلقاءنا شاب قد جلس غير بعيد، ينصت وكأنه يفهم، ويسكت وكأنه لا يعلم، حتى اذا مال الكلام بنا ميله، وجر الجدال فينا ذيله، قال: قد اصبتم عُذَيْقَهُ، ووافيتم جُذَيْلَهُ، ولو شئت للفظت وافضت، ولو قلت لاصدرت، واوردت، ولجلوت الحق في معرض بيان يسمع الصمّ، وينزل العصم، فقلت: يا فاضل اُدن فقد منيت، وهات فقد اثنيت، فدنا وقال: سلوني اجبكم، واسمعوا اعجبكم!...) .
ومع ظهور هذا الشاب المجهول، وتدخله في النقاش الذي كان يجري بين البديع، وبين اصحابه، هذا الشاب الذي سنرى انه يمثل شخصية رئيسية من شخصيات مقامات بديع الزمان، يدور الحدث حول الشعر والشعراء، وحول خصائص ومزايا الشعراء الفحول في الادب العربي، فعن امرئ القيس يقول هذا الشاب الذي تبين فيما بعد انه ابو الفتح الاسكندري استاذ وشيخ بديع الزمان:
(... هو اول من وقف بالديار وعرصاتها، واغتدى والطير في وكناتها، ووصف الخيل بصفاتها، ولم يقل الشعر كاسباً، ولم يجد القول راغباً، ففضل من تفتق للحيلة لسانه....) .
واما النابغة فهو من وجهة نظره: (يثلب اذا حنق، ويمدح اذا رغب، ويعتذر اذا رهب، فلا يرمي الا صائباً) ، في حين ان زهير بن ابي سلمى: يذيب الشعر، والشعر يذيبه، ويدعو القول والسحر يجيبه.
ويبدو ان ابا الفتح او قل بديع الزمان كان معجباً بشعر طرفة بن العبد، ففيه يقول:
(هو ماء الاشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر اسرار دفائنه، ولم تفتح اغلاق خزائنه...) .
ويرى الاسكندري وهو يقارن بين المحدثين من الشعراء والمتقدمين منهم، ان المتقدمين اشرف لفظاً، واكثر من المعاني حظاً، والمتأخرون ألطف صنعاً، وارقّ نسجاً.
وفي ختام هذه الآراء القيمة التي يدلي فيها ابو الفتح الاسكندري هذا الذي يمثل في الحقيقة شخصية خيالية اخترعها ذهن بديع الزمان الهمذاني ليبين من خلالها آراءه في الادب واللغة، تطالعنا ابيات شعرية يقص من خلالها حكايته مع الدهر، وكيف حالت به الاحوال، وتنكرت له الدنيا، فيقول بعد ان طلب منه البديع واصحابه ان ينشدهم شيئاً من اشعاره، ويروي لهم من اخباره:
أما تروني اتغشى طِمْرا
ممتطياً في الضر امراً مُرّا
مُضْطَبناً على الليالي غِمْرا
ملاقياً منها صروفاً حُمْرا
اقصى اماني طلوع الشعرى
فقد عنينا بالاماني دهرا
وكان هذا الحرّ على قدرا
وماء هذا الوجه اغلى سعرا
فانقلب الدهر لبطن ظهرا
وعاد عُرْف العيش عندي نُكْرا
*******