اجمل التحايا واطيب المنى نبعثها اليكم احبتنا المستمعين في لقاء آخر يجمعنا معكم عند جولة جديدة في رحاب عيون التراث الذي سطره علماؤنا المسلمون.
حيث نستكمل تطوافنا في هذا الاسبوع في رحاب رائعة المفكر والمؤرخ والفيلسوف الاسلامي الكبير ابي علي بن محمد مسكويه، الحكمة الخالدة. فأهلاً ومرحباً بكم، وندعوكم الى مرافقتنا.
مستمعينا الاكارم! يرى مسكويه في كتابه جاويدان خرد او الحكمة الخالدة في معرض ايراده للحكم المرتبطة بالعلم ومدى علاقته بالعمل، ان العلم والعمل قرينان كمقارنة الروح للجسد، فلا ينفع احدهما الاّ بالآخر.
فالعلم هو بمثابة الروح، والعمل بمنزلة البدن، فالعلم اذن هو الاصل، والعمل فرع منه، والعلم والد، والعمل مولود، وكان العمل لمكان العلم، ولم يكن العلم لمكان العمل.
والغنى الاكبر يكمن كما يحدثنا بذلك مسكويه في ثلاثة اشياء، نفس عالمة تستعين بها على دينك، وبدن صابر تستعين به في طاعة ربك، وتتزود به لمعادك وليوم فقرك، وقناعة بما رزقك الله باليأس عما عند الناس.
واما زمام العافية فهي بيد البلاء، ورأس السلامة تحت جناح العطب، وباب الامن مستور بالخوف، فلا تكونن في حال من هذه الثلاثة، غير متوقع لاضدادها، ولا تجعل نفسك غرضاً للسهام المهلكة، فان الزمان عدو لابن آدم، فاحترز من عدوك بغاية الاستعداد، واذا فكرت في نفسك وعدوها استغنيت عن الوعظ.
ويحذر مسكويه من خلال الحكم التي يوردها الانسان العاقل من صفات وطبائع الجهال فيقول في هذا الصدد:
(ثماني خصال من طباع الجهّال! الغضب في غير معنى، والاعطاء في غير حق، واتعاب البدن في الباطل، وقلة معرفة الرجل صديقه من عدوه، ووضعه السرّ في غير اهله، وثقته بمن لم يجربه، وحسن ظنه بمن لا عقل له ولا وفاء، وكثرة الكلام بغير نفع...).
وفيما يتعلق بالملوك والحكام وما يجب ان يتحلوا به من خصال، ويحذروا من صفات يؤكد مسكويه ان الهزل آفة الجدّ، والكذب عدوّ الصديق، والجور مفسد العدل، فاذا استعمل الملك الهزل ذهبت هيبته، واذا استصحب الكذب استخفّ به، واذا ظهر الجور فسد سلطانه.
اخوتنا المستمعين! وعلى الحاكم ايضاً ومن اجل ان يضمن تنفيذ العدالة، واجتناب اصدار الاحكام الظالمة بحق الاخرين ان يعمل بثلاث خصال.
وما هي هذه الخصال يا ترى؟
تأخيرالعقوبة عند سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والأناة في الذي يحدث.
وهل هناك اسباب يذكرها المؤلف لوجوب توفر تلك الصفات في شخصية الحاكم؟
نعم، فهو يقول ان له في تأخير العقوبة امكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالاحسان المسارعة بالطاعة من الرعية والجند، وفي الاناة انفساح الرأي، وايضاح الصواب.
واحكام واتقان كل ذلك انما يكون بالتدبير، والتدبير لا يكون الا بالمشورة، والمشورة انما تكون بالوزراء الناصحين المستحقين لرتبهم.
ذلك لان العدل اذا لم يكن غالباً على الجور لم تزل تحدث الوان البلاء والآفات، فليس شيء اقرب لتغيير نعمة، وتعجيل نقمة من الاقامة على الظلم.
وباستصلاح المعاش يصلح امر العباد، وبصدق التوكل يستحق الرزق، وبالاخلاص يستحق الجزاء، وبسلامة الصدر توضع المحبة في القلب، وبالكف عن المحارم ينال رضا الربّ، وبالحكمة يكشف غطاء العلم، ومع الرضا يطيب العيش، وبالعقول تنال ذروة الامور، وعند نزول البلاء تظهر فضائل الانسان، وعند طول الغيبة تظهر مواساة الاخوان، وعند الحيرة تنكشف عقول الرجال.
وبالاسفار تختبر الاخلاق، ومع الضيق يبدو السخاء، وفي الغضب يعرف صدق الرجال، وبالايثار على النفس تملك الرقاب، وبالادب الصالح يلهم العلم، وبترك الخطأ يسلم منه، وبالزهد تقام الحكمة، وبالتوفيق تحرز الاعمال، وعند الغايات تظهر العزائم، وبصاحب الصدق يتقوّى على الامور، وبالملاقاة يكون ازدياد المودات، ومع الزهد في الدنيا تثبت المؤاخاة.
وتستمر اخوتنا المستمعين حكم الحياة هذه تنهال علينا في كتاب الحكمة الخالدة حتى يقول جامع كتاب مسكويه في نهاية هذا الفصل الذي ضمنه حكم قدماء الفرس:
(ومن الوفاء دوام المواصلة، ومن قبول رشد العالم ركوب مطية العلم، ومن استقامة النية اختيار صحبة الابرار، ومن مصافحة الغرور ركوب البحر، ومن عزّ النفس لزوم القناعة، ومن سلطان اليقين التجلد على من يطمع في دينك، ومن الدخول في كامن الصدق الوقوع على مالاتعرفه العوام، ومن حب الصحة الانقطاع عن الشهوات، ومن خوف المعاد الانصراف عن السيئات، ومن طلب الفضول الوقوع في البلايا...).
ثم يشفع مسكويهم ذلك ببيان احسن الآداب وهي كما يرى ان لا يفخر المرء بأدبه، ولا يظهر القدرة على من لا قدرة له عليه، ولا يتوانى في العلم اذا طلبه.
ويقرر بعد ذلك ان هناك ثلاثة ضروب من الناس لا يستوحشون في غربة، ولا يقدر بهم عن مكرمة.
ومن هم هؤلاء الناس الذين بلغ بهم الغنى حداً جعلهم يبلغون هذا المستوى من الثقة بالنفس، وبلوغ الفضائل والمعالي؟
هم اولاً الشجاع حيثما توجه فان بالناس حاجة الى شجاعته وبأسه، وثانياً العالم، فان بالناس حاجة الى علمه وفهمه، والثالث هو الحلو اللسان، الظاهر البيان، فان الكلمة تجوز له بحلاوة لسانه، ولين كلامه.
فان لم يعط الانسان رباطة الجأش، وجرأة الصدر؟!
عليه في هذه الحالة كما يوصينا بذلك الحكماء، ان لا يفوته العلم، وقراءة الكتب، فانه ادب، وعلم قد قيّده لنا من مضى من قبلنا، وبه نزداد عقلاً.
اعزتنا المستمعين! وفي الفصل الذي خصصه مسكويه لاستعراض حكم وامثال قدماء الهند يبادرنا بالحكمة التالية التي تحذرنا من مصاحبة بعض الطوائف من الناس فيقول:
(اثنان من الناس ينبغي ان يتباعد منها، احدهما الذي يقول:لاثواب ولا عقاب ولا معاد ولا برّ ولا اثم، والآخر الذي لا يملك شهوته، ولا يستطيع ان يصرف قلبه وبصره عن شهوة ما ليس له فيرتكب الاثم، ويقوده الحرص الى الخزي والندامة في الدنيا مع المصير الى الجحيم والعذاب الاليم في الآخرة...).
وبشأن الاصدقاء وآداب الصداقة يقرر الحكماء ان هناك ثلاثة لا يلبث ودّهم ان يتصرّم.
وهم الصديق الذي لا يقوم بحق صديقه عند النوائب، ويطيل غيبته عنه، ويتوانى عن زيارته، ولا يكاد يصير اليه الاّ على كُره، فاذا صار اليه ماراه في كل مانطق به.
والمُداخِلُ لاصدقائه في النعم والفرج حتى اذا نابتهم نائبة قطعهم، والرجل يريدك لامر حتى اذا وصل اليه استغنى عنك فزال ودّه بزواله.
ومن الشروط التي يذكرها مؤلف الكتاب لصحبة السلطان، النصيحة، وحفظ السرّ، وتزيين امره، وايثار هواه، ومجانبة الغش له، وان لا يخفي عنه سرّاً.
ويحذّر بعد ذلك من جملة خصال بخصوص العلاقة بين الرعية والملك فيقول في هذا المجال:
(لا تتودّد على السلطان بالدالة وان كان اخاك، ولا بالحجة وان كانت لك دونه، ولا بالنصيحة وان كانت له دونك، فان السلطان يعرض له ثلاث دون ثلاث: القدرة دون الكرم، والحمية دون النصفة، واللجاج دون الحظ...).
وفي ختام هذا الفصل من كتاب "جاويدان خِرَد" يقدم لنا المؤلف بعضا من الحكم، والارشادات تحقيقاً وضماناً لسعادة الانسان في الدنيا، فيقرر ان العاقل يجب ان لا يزرع العداوة اتكالاً على قوته، كما لا يجب لصاحب الترياق ان يشرب السمّ اتكالاً على ادويته.
ومن جمع لك الى المودّة رأياً حازماً، فأجمع له الى المحبة طاعة لازمة، وشرُّ ما شغلت به عقلك وضيّعت به عمرك اشارة الى مُعْجَب بنفسه.
نتمنى لكم اطيب الاوقات شاكرين لكم حسن الاصغاء والمتابعة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******