اخوتنا المستمعين في كل مكان! من دواعي سرورنا ان نلتقيكم مجدداً عبر رياض الادب الفارسي.
حيث العبارة البليغة، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة ممزوجة بنفحات العرفان، واريج الكلمة.
أبُلبلَ الدَوْحِ ما في الحبِّ من طَرَبٍ
فكيفَ تَهْتِفَ بالاسْحارِ جَذْلانا
ان كُنْتَ صبَّاً فأَصْلِ الرُّوْحَ مُحْتَذِياً
حَذْوَ الفَراشَةِ دونَ الشَكْوِ نيْرانا
تَعَلَّمِ العِشْقَ مِنْ تلك التي فَنِيَتْ
وما سَمْعنا لها حِسّاً بِدُنيانا
كم مُدَّعِ محبَّ لَيْلى مالَهُ خَبَرٌ
بِها وَلَمْ تُولِهِ في الحُبِّ سُلْطانا
شدا با وتَغنَّى في مَباذِلِه
وراح يملأُ سَمْعَ الدَّهْر أَلْحانا
ومُذنَفٍ باتَ مِنْ لَيلاهُ في شُغُلٍ
قضى وما أَقْلَعتْ شَكْواهُ انسانا
مستمعينا الاكارم! الابيات السابقة التي ترجمت من الفارسية الى العربية شعراً هي من بين الابيات الشعرية الكثيرة ذات المضامين العرفانية والاخلاقية التي تزخر بها رائعة سعدي الشيرازي الخالدة جُلِسْتان او روضة الورد.
ان الذي يتتبع آثار هذا الشاعر والناثر الكبير الذي اطبقت شهرته الآفاق يستطيع ان يستخلص تاريخ حياته بسهولة مما تركه بين ايدي الناس يتداولونه ويتدارسونه فيما بينهم معجبين ومأخوذين بهذه العبقرية الفذّة التي لايجود الزمان بمثلها الا في فترات نادرة بين حقبة واخرى من الدهر بعيدة المدى.
وان الذين ارّخوا له، وعُنُوا بآثاره، استخلصوا تاريخ حياته من اشعاره، ومن نثره الساحر خصوصاً في كتابه الخالد جلستان، وديوانه الفاتن بوستان.
مستمعينا الافاضل!
اسمه الكامل: الشيخ مشرّف الدين بن مصلح الدين الشيرازي المعروف باسم سعدي في اشعاره، احد النجوم اللازمة في سماء الادب الفارسي، فلقد بلغ اعلى درجات الفصاحة في اللغة الفارسية، كما ان نظمه ونثره يعدّان احسن مثال في السلاسة والبلاغة.
رُويَ ان الشاعر كان في رعاية الاتابك سعد بن زنكي الذي ارسله الى بغداد لاتمام علومه، واغلب الظن ان الشيخ عزم على السفر الى تلك المدينة للتحصيل لما رآه من الحروب والاضطرابات في نواحي فارس، وقد كان من نتائج هذا السفر، ومن التقائه بعلماء بغداد وعظمائها ان كان لكل هذا تأثير لاحدّ له في نفسية شاعر شاب، وفي افكاره.
وقد كانت بغداد في ذلك الوقت دار العلم، حضر فيها دروس اساتذتها كالشيخ شهاب الدين السهروردي الذي كان من كبار رجال الصوفية، وابي الفرج الجوزي وغيرهما.
ثم عاد سعدي بعد بضع سنوات الى موطنه في ايران وقد تعرض الى هجمات المغول، ولم تنج مدينة شيراز نفسها، وهي موطن نشأته، من الثورات والاضطرابات، فتأثرت نفسيته بذلك، ورغب فان ان يطوف العالم، ويجوب نواحيه، فقام برحلات طويلة، وزار مكة، ودمشق، وبلغ شمالي افريقيا.
واقام مدة في الشام، وعاشر اهل تلك البلاد من الطبقات العليا الى الدنيا، واختلط بالعلماء والعوام، والصوفية، والملاحدة، والبراهمة، وقد تزود من كل ما تحمله افكارهم، ولم يفارق دمشق الاّ عام 643هـ حين ابتليت بالقحط، وجفاف مياه العيون والانهار، فرثاها ابلغ رثاء، وبكاها احرّ بكاء، كما فعل ذلك من قبل مع بغداد التي سقطت على ايدي المغول.
اعزتنا المستمعين! وبعد ذلك السفر الطويل عاد الشيخ الى موطنه شيراز مزوداً بالخبرة، ممتلئ النفس بالافكار الناضجة، فلما بلغها وجدها تحت حكم الاتابك ابي بكر بن سعد، فوجد البسطة في الرزق، والامان في الحياة.
وفي ظل هذه الاجواء وجد الشيخ مشرّف الدين الفراغ والميل الى التصنيف، فألّف ذخائر المعارف، ونفيس الاداب بعد ان امضى عمراً طويلاً في التنقل بين البلاد.
ومع ان الشاعر قد اطبقت شهرته الآفاق منذ نشأته، وسُمِعَ عن فضله منذ شبابه، وجرت اشعاره على الالسنة، فان اهم ما قام به في ذلك العهد انه نهض للتأليف والتدوين، واول منظوماته المهمة والمشهورة هي ديوان البستان الذي يشتمل كله على قصص شعري غاية في الابداع يبدو فيها سعدي شاعراً انسانياً، ومعلّماً في الاخلاق.
وبعد سنة من اتمام هذا الديوان الّف رائعته الاخرى الجُلِسْتان، التي تعدّ اجود ما كتب في النثر الفارسي المرصّع بالمقطوعات الشعرية الجميلة والرقيقة، حيث تنتظم فيها القصص، والامثلة، والحكم، والنصائح الاخلاقية والاجتماعية في عبارات لطيفة متينة حتى نستطيع ان نقول ان الجلستان شعر منثور، او نثر مجرد من الزوائد والحشو.
اما غزليات سعدي فيمكن ان نقول انه بمتكر فيها، فقد تضمنت ابدع الاحاسيس في روح العرفان، فلم يبلغ شاعر آخر ما بلغه فيها، مع انه يتضح من حكايات سعدي وحكمه انه اندمج في زمرة رجال الصوفية، الا انه لم يكن من اولئك الذين نفضوا ايديهم من شؤون الحياة، ولا من الذين لجؤوا الى الاعتزال، بل كان له لطافة افكارهم، واشراقة نفوسهم، في حياة معتدلة، وعمل متزن.
وكان تأثير سعدي الشيرازي في الناحيتين، الادبية والاخلاقية كبيراً ليس في ايران وحدها بل في كثير من بلدان العالم، حتى ان بعض الشعراء المشهورين الذين جاؤوا بعده كحافظ الشيرازي، وعبد الرحمان الجامي وضعوه موضع التقدير والاعجاب، واحلّوه بينهم محل الفضل والاجلال.
بلغت شهرة سعدي اطراف العالم، ونقلت آثاره في النثر، والنظم الى جميع اللغات الحية، وكانت محل اعجاب الشعوب وتقديرها.
يا مَنْ سموتَ عن الخيالِ
وَوَهْمِ أَقْيَسةِ العُقولِ
وَعنِ الذي كنّا قَرَأْنا
عنك من ضافي الفُصُولِ
قد تمّ مجلسُنا وَوَافى
الُعمْرُ منزلةَ الأُفُولِ
وكما بدأنا لم نَزَلْ
بنهايةِ الوَصْفِ الجَميلِ
اعزتنا المستمعين! على امل ان نكمل جولتنا في رحاب الجُلْستان الزاخرة بفنون القول الرفيع، والنظم البليغ الفصيح.
نستودعكم رعاية الباري عزوجل. والى الملتقى.
*******