اخوتنا المستمعين الاكارم! نرحب بكم اجمل ترحيب في حلقة جديدة من برنامجكم الاسبوعي عبارات واشارات حيث نجول معكم جولة اخرى في رحاب التراث الاسلامي الذي سطّره رجال المعرفة والادب في ايران الاسلام.
فأهلا ومرحباً بكم مستمعينا الافاضل راجين ان تقضوا معنا دقائق مفعمة بالفائدة والمتعة.
احبتنا المستمعين! يختلف اسلوب شاعرنا جلال الدين الرومي في شعره الوجداني عنه في شعره التعليمي، فهو في شعره الوجداني يبدو جيّاش العاطفة، عنيف الاحساس، يعبّر عن مغامراته الروحية بقوة وحرارة.
ونحن نراه في هذا اللون من الشعر يعرض علينا الفلسفة العرفانية بطريقة تبدو جديدة كل الجدة، مختلفة كل الاختلاف عن كل ما عُرِفَ من شعر عرفاني السلاح، فلقد تناول في كثير من غزلياته موضوعات العرفان تناولاً مباشراً، وعالجها باصالة فنية جعلت شعره يختلف اختلافاً بعيداً عما كتبه غيره من شعراء العرفان.
فبينما نجد شاعراً كابن الفارض يُغْرِقُ في معانيه في سيل لاينقطع من المحسنات اللفظية، نجد شاعرنا المولوي متحرراً في اسلوبه من تلك المحسنات، منطلقاً في عباراته الى آفاق لا تحد، فلا تكاد عباراته تحمل من شحنات معانيه الا القدر الضروري الذي يثير الخيال، ويستحثه على ملاحقة الشاعر في آفاقه العالية.
وعلى سبيل المثال فانه يخاطب في احدى مقطوعاته قلبه المتعلق بالهيكل الجسمي، الخاضع لاهوائه، ويلومه في احدى غزلياته قائلا:
(ايُّها القلب! لماذا انت اسير لهذا الهيكل الترابي الزائل؟
ألا فأنطلق خارج هذه الحظيرة، فانك طائر من عالم الروح
انّك رفيق خلوة الدلال، والمقيم وراء ستر التراب
فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني؟
انظر الى حالك، واخرج منها وارتحل
من سجن عالم الصورة الى مروج المعاني
انك طائر العالم القدسيّ
فمن الخسارة ان تبقى في هذا المقام...)
اعزتنا المستمعين! وبالطبع فان مقصود الشاعر من تلك المقطوعة دعوة القلب الى ان يتفكر ويتأمل، وينطلق محلقاً في عالم المعاني، ولا يبقى مجرد عضو محصور في هذا الجسد وطبيعته المادية المحدودة، وعلى سبيل المثال ففي الغزل العرفاني يناجي الشاعر محبوبه قائلا:
(ايُّها الحبيب! انّي لم ارَ طرباً في الكونين بدونك
لقد رأيت كثيراً من العجائب، ولكني لم أرَ عجباً مثلك
ولَكَمْ وضعت اذُنَ الروحِ على نافذة القلب
فسمعتُ كلاماً كثيراً ولكني لم أرَ شفتين!)
وفي غزل آخر يناجي مولانا محبوبه في قوله:
(يا مَنْ أنتَ في ساعة الالم راحةٌ لنفسي
ويا مَنْ انتَ في مرارة الفقر كنزٌ لروحي
انَ مالا يحمله الوَهْمُ، ولا يُبْصِرهُ الفَهْمُ
يصلُ الى روحي منك لانّك قبلتي
ففي ركعات الصلاةِ يكونُ خَيالُكَ لي ايُّها الملك
واجباً ولازماً عليّ لزومَ السبع المثاني)
وفي احدى غزلياته يتحدث جلال الدين المولوي في ديوانه المثنوي عن الاتحاد بالمحبوب، ويصور لنا تلك الافكار التي قالها غيره في العرفان ولكن بصورة شاعرية رائعة تحرّك القلب، وتجعلنا نرى ذلك المعنى من ابعاد اخرى وكأننا نسمعه من الشاعر لاوّل مرة كما نرى ذلك في مقطوعته الغزلية التالية:
(ما أسعدَ تلك اللحظة حين نجلس في الايوان أنا وانت
نبدو نقشين وصورتين ولكننا روح واحد أنا وانت!
انّ لون البستان، وشدو الطيور يهبانا ماء الحياة
في تلك اللحظة التي نذهب بها الى البستان أنا وانت
وتُقبلُ نجومُ الفَلَك رانية الينا بأبصارها
فنجلو القمر نفسه لتلك الافلاك أنا وانت
أنا وانت نبلغ بالذوق غاية الاتحاد
فنسعد ونستريح من الخرافات والاقاويل انا وانت
وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ذات الالوان الباهرة
حينما تشاهدنا نضحك جذلين على تلك الصورة أنا وانت!...)
مستمعينا الاحبة! وقد حفل المثنوي ايضا بقطع عالجت موضوع الانسان واصله الالهي، وكيف ان نفسه في حنين دائم الى ذلك الاصل الذي جاءت منه، وانها تعاني في هذا العالم المادي الذي سُجِنَتْ فيه.
والمولوي يبدأ معالجته هذ بالحديث عن الناي، ويصف نغماته بأنّها حنين الى منبته الذي قُطِعَ منه قبل ان تتناوله يد البشر فتشكل منه تلك الآلة الموسيقية، علماً ان الناي هنا هو رمز للنفس البشرية، وما مَنبتُ الغاب الا رمز لاصل تلك النفس، وعالمها الاول، وما صوت الناي الا رمز لحنين تلك النفس البشرية الى اصلها.
فلنستمع - اخوتنا المستمعين- الى الشاعر وهو يحدثنا في الابيات الشعرية الاولى من مثنويه عن قصة هذا الحنين:
(استمع للناي كيف يقصُّ حكايته، فهو يشكو آلام الفراق قائلا:
انني مُذْ قُطِعْتُ من منبتِ الغابِ والناسُ جميعاً يَبكونَ لبكائي!
انني اُنْشِدُ من صدرٍ مزّقه الفراقُ حتى اشرح له ألمَ الاشتياق
فكلُّ انسانٍ أقامَ بعيداً عن اصله، يظلُّ عن زمان وَصْله
لقد اصبحت أنوحُ في كل مجتمعٍ ونادٍ
وصرتُ قريناً للاشقياء والسُعداء
وقد ظنّ كلُّ انسان انّه قد اصبح لي رفيقاً
ولكنّ احداً لم يُنقّبْ عمّا كمن في باطني من الاسرار
وليس سرّي ببعيد، ولكن أنّى لعينِ ذلك النور
وأنّى لأُذُنٍ ذلك السمعُ الذي تُدرَكُ به الاسرار!...)
مستمعينا الافاضل! واما الشعر التعليمي لهذا الشاعر فقد كان مجالا رحبا تجلت فيه عبقريته، فلقد استعان فيه بثقافته الواسعة، وفهمه العميق لمعارف اهل زمانه، فهو يكشف عن خبرته بالنفس البشرية، ومقدرته على سبر اغوارها، وتصوير نوازعها الخيرة والشريرة على السواء. لننظرمثلا الى حديثه عن التملق واثره في نفس من يتقبله من الناس:
(انّ الجسمَ على شَكْلِ القَفَص
وقد اصبحَ بخداعِ الداخلينَ والخارجين شوكة تَخِزُ الروح
فهذا يقول له: انني سأكون صَفيّك
وذاك يقول له: لا، بل انا شريكُك!
وهذا يقول له: ليس لك نظيرٌ في الوجود
سواء في الجمال او الفضل او الاحسان والجود
وهذا يقول له: انك صاحب العالَميْن، وكلّ ارواحنا عيال على روحك
فحين يرى الخَلْقَ سُكارى ذاته، يفقد من الكِبْرِ سلطانه على نفسه
وهو لا يدري انّ الشيطان قد اسقط آلافاً مثله في بحر الغرور الهائج
فمَلَقُ الدنيا ونفاقها لقمة حلوة المذاق، ولكنها مليئة بالنار، فأقْلِلْ من تناولها
فمن كثرة المديح اصبح فرعونُ طاغياً
فكنْ متواضع النفس، ليّن الجانب، ولا تتجبّرْ!...)
وهكذا اخوتنا المستمعين فان جلال الدين لم يكن فيلسوفاً فحسب، وانما كان حكيماً عملياً، فلقد تقبل الحياة، وتفاعل معها، وعدّها واقعاً لاشك فيه، واوجب العمل فيها كما يقول:
(انّ الدنيا تتجدّدُ في كل لحظة ونحن لا نُحِسُّ بتجدّدها
وهي باقية على هيئتها الظاهرة
والعُمر وان بدا مستمراً في الجسد
فانه يتجدّد في كل لحظة كما يتجدد ماء النهر)
وهو مؤمن بالعلم، ومكانته في هذه الحياة، متفائل في نظرته الى مستقبل البشرية رغم انه عاش في عصر هو من اظلم عصورها فحتى العشق العرفاني عند جلال الدين كان وسيلة من وسائل البعث الروحي حيث يقول في ذلل:
(فيا مَنْ قلوبهم تحت جلودهم متحلّلة بالفَناء
عودوا من العدم بنداء الحبيب!
فالسيلُ حين وصل الى البحر صارَ بحراً
والحبّةُ حينَ وصلت الى الحقل صارت حصاداً
فما أسعد ذلك الانسان الذي تخلّص من ذاته
واصبح متحداً مع الوجود الحيّ!...)
اخي المستمع، اختي المستمعة! بهذا نأتي الى ختام حلقتنا لهذا الاسبوع من عبارات واشارات. نشكر لكم حسن المتابعة، وحتى نلتقيكم في حلقة جديدة نستودعكم الرعاية الالهية والى الملتقى.
*******