احبتنا المستمعين الاكارم! سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته، فأهلاً ومرحباً بكم راجين ان تمضوا معنا لحظات حافلة بالفائدة والمتعة.
اخوتنا المستمعين! يتربع ديوان المثنوي لجلال الدين الروميّ المعروف بـ(المولوي) على واحد من ألمع عروش البيان، والمعرفة، والبلاغة لينضم بذلك الى قائمة اسفار الفكر الانساني الخالد التي ابهرت البشرية جمعاء بحسن بيانها، وبلاغتها المشرقة، وتضمنها للتعاليم الانسانية والاخلاقية الخالدة التي اثرى اصحابها من خلالها المعرفة البشرية، واسهموا فيها في بناء صرح الحضارة الانسانية في جانبها الروحي والمعنوي.
وجلال الدين محمد بن البلخي المعروف بـ (الرومي) احياناً وبـ (المولوي) او (مولانا) احياناً اخرى هو احد شعراء وعرفاء الانسانية الافذاذ، وعلم شامخ من اعلام الفكر ورواده الذين انجبتهم حضارتنا الاسلامية، فاسهمت بتراثه الفكري والفني في اغناء تراث البشرية برمتها.
وُلِدَ هذا الشاعر، والعارف الكبير الذي طبقت شهرته الآفاق، ودخلت آثاره في تكوين تراث الكثير من شعوب الشرق، في مدينة بلخ عام 604 للهجرة، ولُقّبَ بـ (الرومي) نسبة الى ارض الرم حيث قضى معظم حياته.
تلقى الشاعر تعليمه في اول الامر على يد ابيه محمد بن الحسين الخطيبي، ثم على يد برهان الدين محقق الترمذي المحدث الشهير، ومما روي في هذا المجال انه توجه الى الشام بناء على نصيحة استاذه برهان الدين، واقام فيها لسنوات.
وكان في دمشق حينذاك الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي، وقد تولى جلال الدين التدريس في مدينة (قونية) بعد وفاة استاذه الترمذي عام 638هـ، وهناك حظي برعاية سلطانها السلجوقي، وبقي مقيماً في هذه المدينة لا يفارقها الا ليعود اليها، حيث تجمع حوله عدد من التلاميذ والمريدين علماً ان جلال الدين ورغم انه كان قد تبحّر في الكثير من فروع المعرفة، الا ان موهبته الشعرية لم تكن قد تفتقت بعد.
اخوتنا المستمعين! ظهرت عبقرية الرومي كشاعر في فترة كان قد بلغ فيها مرحلة متقدمة من النضج الفكري والنفسي، الا ان العجيب في تلك العبقرية انها جعلت انتاجه العقلي بعد ان قارب الاربعين يختلف اختلافاً كلياً عن انتاجه السابق، فبعد ان كان من الفقهاء والاحناف، اصبح عارفاً، فناناً شاعراً، وحكيماً، وفيلسوفاً انسانياً! فكيف حدث هذا يا ترى؟!
المصادر التي ارّخت لحياة جلال الدين المولوي تصور لنا ان هذا الانتقال كان فجائياً حدث نتيجة التقاء الشاعر بصوفيّ من المتصوفة السيّاح كان يدعى شمس الدين التبريزي، وقد كان لهذا الرجل كما يحدثنا بذلك الرومي في اشعاره اعمق الاثر في نفسه.
ومع ذلك فان ذلك الانقلاب كما نرى لا يمكن ان يحدث بتلك الصورة المفاجئة فلابد ان الرومي كان ميالاً الى التصوف، نزاعاً الى ذلك التأمل الروحي العميق، وانه بعد التقائه بذلك الصوفي المجهول وجد نفسه، وادرك حقيقته، فانطلق في الطريق الذي كان مقدراً له ان يخلد اسمه على مرور الايام، ويضعه في مصاف الخالدين من شعراء العالم ومفكريه.اعزتنا المستمعين! ذلك التحول اشار اليه المولوي في احدى رباعياته حيث قال:
(عندما توقدت نيران الحبّ في قلبي
احرق لهيبها كل ما كان في قلبي هذا
فازدرت، وعافت نفسي العقل الصارم
والمدرسة، والكتاب
وانهكت في تعلّم صناعة الشعر
وتعلمت النظم...)
ويبدو ان تلامذة الرومي قد اضمروا في قلوبهم الحقد على ذلك الدخيل الذي صرف عنهم استاذهم، فهاجموه، فما كان منه الا ان سافر خفية الى دمشق، فاصاب جلال الدين حزن عظيم، واغتمّ لافتراقه عن هذا الصديق الروحي، حتى انه نظم كثيراً من شعره الوجداني في فترة الفراق تلك.
ولم ينقذه وينتشله من احزانه وشجونه سوى ابنه الذي ذهب الى دمشق وعاد بابن تبريز شمس الدين وقد ذكر ان تلاميذ الرومي تعرضوا للتبريزي من جديد فرحل للمرة الثانية، وان الرومي عمل من جديد لاعادته، الا انه اختفى نهائياً عام 645هـ.
وقد تألّم جلال الدين كثيراً لفقد صديقه، وهتف في اشعاره من اعماق قلبه قائلاً:
(من ذا الذي قال ان شمس الروح الخالدة قد انكسفت؟
ومن ذا الذي تجرّأ على القول ان شمس الامل قد غارتْ؟
انّ هذا ليس الا عدوّاً للشمس وقف تحت سقف،
وعصب كلتا عينيه ثم صاح مدّعياً، ها هي الشمس تموت!)
ومهما يكن من امر - اخوتنا المستمعين- فقد كانت لتلك الصداقة الروحية حصيلة شعرية هائلة جادت بها عبقرية المولوي، كان ثمرتها ديواناً كاملاً سمّاه (ديوان شمس تبريز) تذكاراً لصديقه ومرشده الروحي.
ولم يقف الشاعر عند حدّ نسبة هذا العمل الادبي في اجماله الى صديقه، بل انه نسب اكثر الغزليات العرفانية في هذا الديوان الى استاذه الروحي هذا من خلال التخلص باسمه في كل منها، علماً ان التخلص في الغزل الفارسي هو ان يذكر الشاعر اسمه الادبي المستعار في البيت الاخير من الغزل.
احبتنا المستمعين! ولم تشتمل كتب التراجم رغم غزارة ما كتبته عن جلال الدين على حقائق اكثر من تلك، والذي يمكننا ان نذكره الى جانبها ان الشاعر عاش حياة قدّيس يُعلّم، ويُرشد، ويَنْشر تعاليمه الاخلاقية، وقد احاط به، والتفّ حوله عدد كبير من التلاميذ والمريدين.
حتى توفي في الخامس من جمادى الاخر في قونية عام 672هـ، ولقي بعد وفاته من التكريم ما كان قد لقيه في حياته، فقد شيد على قبره ضريح اقيمت فوقه قبة عُرفت بالقبة الخضراء اضيف اليها بعد انتهائها مبان اخرى، وقد ذكر الرحالة الشهير ان بطوطة في رحلته ضريح الشيخ الرومي قائلا:
(وبهذه المدينة قونية تربة الشيخ الامام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وكان كبير القدر، وبأرض الروم طائفة ينتمون اليه، ويعرفون باسمه، فيقال لهم الجلالية، وعلى تربته زاوية عظمية فيها الطعام للوارد... واهل تلك البلاد يعظمون كتابه المثنوي، ويعتبرون كلامه، ويعلمونه، ويقرؤونه بزواياهم في ليالي الجمعات...).
اعزتنا المستمعين! تنقسم آثار شاعرنا المولوي الى قسمين منثور، وآخر منظوم، حيث يتكون انتاجه النثري من ثلاثة مؤلفات اولها (المجالس السبعة) وهو عبارة عن مواعظ وخطب أثرت عنه قبل ان يعتنق التصوف فكراً وعملاً، وثانيها كتاب يدعى (فيه ما فيه) يشتمل على احاديث مولانا ومحاضراته التي كان يلقيها على تلاميذه ومريديه، والثالث مجموعة من الرسائل كتبها الى اقاربه واصدقائه.
الا ان الجانب المهم من نتاجات جلال الدين يتمثل في شعره وهو الجانب الذي يعنينا في الحلقات التالية التي سنخصصها لاستعراض اشعاره، وقد بلغ هذا الانتاج ما يقرب من سبعين الف بيت.
فاذا كانت هذه الغزارة مقرونة بالاجادة فهذا يعني ان شاعرنا قد انطلقت شاعريته بفيض غامر من الابداع قلما اتيح لشاعر آخر في اي زمان، وبأية لغة علماً ان مولوي لم يبدأ نظم الشعر الا حين شارف الثامنة والثلاثين من عمره، وانه قد عاش حتى بلغ من العمر ثمانية وستين عاماً.
فاما ديوانه فيشتمل في اغلبه على غزليات صوفية يبلغ عددها نحو 3500 مقطوعة غزلية نظمت على بحور عديدة، واما الرباعيات فتنسب الى مولانا منها 1659 رباعية تبلغ عدد ابياتها 3318 بيتاً.
واما الاثر الثالث الذي سيكون موضوع عدد من حلقات برنامجنا فهو ديوان المثنوي الذي يمثل الاثر الاشهر بين نتاجات المولوي الشعرية الاخرى، علماً ان كلمة المثنوي تعني ذلك النظم الذي يعرف بـ (المزدوج) في العربية، وهو يعتمد على توحيد القافية بين شطري كل بيت من ابيات المنظومة، فكل بيت من الابيات تكون له قافيته المستقلة.
ولعل هذا التعدد في القوافي هو الذي مكن الشعراء الايرانيين من نظم الملاحم المطولة على الاوزان العربية، واوزان اخرى ابتكروها، والانطلاق بها الى ابعد مدى ارادوه.
مستمعينا الاحبة! الحديث عن هذا السفر الادبي والعرفاني والاخلاقي، واستعراض ما فيه من اشعار خالدة رائعة، نوكله الى الحلقة المقبلة من برنامج عبارات واشارات. فحتى ذلك الحين نستودعكم العلي القدير، والى الملتقى.
*******