احبتنا المستمعين الاكارم! سلام من الله عليكم ورحمته بركات، واسعد الله اوقاتكم بكل بركة وخير.
يعدّ كتاب (اسرار التوحيد) حول حياة وحالات ابي سعيد ابي الخير بين اشهر الكتاب العرفانية والصوفية من الناحيتين، الموضوعية والمضمونية من جهة، والاسلوبية والتعبيرية من جهة اخرى.
فهذا السفر النفيس والقيم يعتبر مرجعاً مهماً لدراسة مذهب التصوف والعرفان والاطلاع على اسس وفروع وتاريخ هذا المذهب الذي كان له في عصر من العصور نفوذ وانتشار واسعان يبعثان على الدهشة في العالم الاسلامي الى درجة ان الامراء، والحكام، والملوك المقتدرين كانوا يحذرون، ويحتاطون في التعامل مع مشايخ الطرق، وزعماء الفرق الصوفية.
ففي نفس الوقت الذي يحيط فيه القارئ علماً بحياة واخبار العارف والمتصوف الشهير ابي سعيد ابي الخير والتي كتبت باسلوب قصصي ممتع، وبعبارات ادبية عذبة، فانه يتعرف ايضاً على الكثير من احوال العرفاء والصوفيين من قبيل عاداتهم وتقاليدهم، وجلساتهم، واجتماعاتهم، والمفهوم الحقيقي لبعض من مصطلحات هذه الفرقة.
من قبيل الخلوة، والرياضة، والمراقبة، والسماع، والخرقة، والمرقّع، والزاوية، والوَجد، والحال، والقبض، والبسط، وكذلك فانه يحيط علماً ايضاً بالاحداث التاريخية، والاوضاع الاجتماعية في القرنين الخامس والسادس الهجريين، واقوال بعض من العرفاء والمشايخ، والرجال المعتبرين بشأن العرفان والتصوّف.
يدور الموضوع الرئيس لهذا الكتاب حول حياة الشيخ ابي سعيد ابي الخير، وهذه الاخبار التي ذكرت حول حياة الشيخ والتي تشتمل على رياضات، ومجاهدات، وكرامات، وحالات للشيخ، لا تخلو من فائدة في كل الاحوال.
ويتميز كتاب (اسرار التوحيد) بتمتعه باساس اخلاقي متين بحيث ان الملاحظات والمضامين الاخلاقية قد افرغت في قوالب تعبيرية بلغت من اللطافة، بحيث ان من شأنها ان تليّن اقسى القلوب حتى وان كانت كالحجارة، او اشدّ قسوة منها.
وذلك من قبيل القصة التي يوردها صاحب الكتاب عن النبي موسى عليه السلام والتي تقيد بان الله عزوجل امره ان يطلب من بني اسرائيل ان يختاروا افضلهم على ان يختار هذا الافضل الاسوء بينهم، فاختار الافضل احد الاشخاص الفاجرين والفاسقين باعتباره الاسوء.
الا انه يتردد في اللحظات الاخيرة في اطلاق حكم الاسوء عليه، فلعل ظاهره يوحي بذلك، ومن المعلوم ان ليس من الصحيح ان يصدر الانسان احكامه استناداً الى الظاهر، وبعد ان تردد طويل يعلن انه قد اختار نفسه كأسوء شخص بين بني اسرائيل، فكانت النتيجة ان اوصله هذا التواضع، والنكران للذات، والبُعْد عن الكبر والغرور الى اسمى المنازل وارفعها.
ويمكننا ان ندرج تحت ذلك العنوان الحوار الذي دار بين الشيخ، مع الرجل الدلاك عندما كان في الحمام، فهذا الحوار يشتمل على ملاحظة وموعظة اخلاقية طريفة، اذ يروي لنا مؤلف الكتاب ان الدلاك كان يجمع الاوساخ على ساعد الشيخ، وفي هذه الاثناء سأله الدلاك قائلا: ما هي المروءة؟ فبادره الشيخ في الجواب قائلا: ان لا يعرض احد ادران الانسان واوساخه امام مرآه!
وفي موضع آخر نرى الشيخ يهاجم الحياة الاتكالية، ويعلّم القارئ درس الاعتماد على النفس والثقة بها، وذلك عندما يرى خادمه منهمكاً بكتابة، وتسجيل قصص الدروَشة وحكاياها، فينهره الشيخ قائلا: لا تكن مملياً للحكايات، بل كن بحيث تروى الحكايات عنك.
مستمعينا الافاضل! وهكذا فان كتاب (اسرار التوحيد) يعتبر من جملة روائع النثر الادبي الفارسي التي لا يمكن انكارها، فقد بلغ هذا الكتاب القمة في سلاسة الانشاء والانسجام، وقوة ومتانة العبارات، والالتزام التام بمقاييس ومعايير الفصاحة والبلاغة.
وعلى الرغم من ان هذا الكتاب قد تمّ تأليفه في اواخر القرن السادس الهجري، اي في عصر غلبة التزويقات اللفظية، والاساليب والزخارف البديعية على اعمال الادباء والكتّاب، الا اننا لا نجد فيه مطلقاً اثراً من آثار التصنع، والتكلف وخصوصاً في مقدمته.
فنحن نشهد في كل جزء وفصل في هذا الكتاب قصر الجمل وكمالها وفائدتها في ذات الوقت، كما نلاحظ استخدام المؤلف للكلمات، والالفاظ، والتعابير الفارسية الاصيلة، الى درجة ان القصص والحكايات رويت على درجة من التمكن والمهارة بحيث انها تجعل القارئ منشداً منجذباً اليها بجاذبيتها الخاصة حتى نهايتها.
ان افضل وصف يمكن ان نقدمه لهذا الكتاب من بدايته وحتى نهايته هو ان ما جاء فيه مازال محتفظاً بطراوته، ونضارته رغم مرور ما يقرب من ثمانية قرون على تأليفه، فهو شبيه بالنثر المفهوم والمتداول في هذا العصر وقريب منه الى حدّ بحيث ان القارئ يتصور نفسه انه يقرأ اعذب واسلس نثر كتب بقلم امهر الكتاب واقدرهم في القرن الاخير!
احبتنا المستمعين! مؤلف الكتاب هو محمد بن منوّر احد احفاد الشيخ ابي سعيد ابي الخير العارف المشهور المتوفى سنة 440هـ، وقد كان من الشخصيات المحترمة والمعروفة الوجيهة التي كانت تفد على بلاط ومجالس الملوك والحكام دون اذن مسبق.
وقد ألّف ابن منوّر كتابه هذا باسم الحاكم الغوري غياث الدين محمد بن سام وذلك بين عامي 548 و599هـ، ولذلك يُعدّ (اسرار التوحيد) من بين نتاجات القرن السادس الهجري.
ويتضمن هذا الكتاب ثلاثة ابواب، الباب الاول في بداية حياة واحوال الشيخ ابي سعيد ابي الخير، والباب الثاني يتناول المرحلة الوسيطة من حياته اي منذ بداية اضطلاعه بمهمة الارشاد وحتى وفاته، ويشتمل على ثلاثة فصول هي اكثر تفصيلاً من البابين الآخرين.
اما الباب الثالث فمخصص لاستعراض ختام ونهاية حالات الشيخ، ويشتمل على وصاياه، وكيفية وفاته، والكرامات التي ظهرت بعد وفاته.
واما بالنسبة الى الشيخ ابي سعيد فضل الله بن ابي الخير الذي يدور موضوع الكتاب حوله فهو من مشايخ العرفان في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وكان قد امضى ردحاً من حياته في الرياضة والسلوك في سرخس، ونيسابور، وآمُل.
وعكف في صومعته بـ(مَيهَنة)، وفي نيسابور ايضاً على ارشاد وتوجيه سالكي طريق التصوف والعرفان، ووعظ وهداية المسلمين، حتى توفي في (ميهنة) عن عمر ناهز الثالثة والثمانين بعد ان ترك اكبر الآثار واعمقها على سيرة العرفان والتصوف في بلاد ايران حتى قيل انه كان الشخص الاول الذي وضع نظام وترتيب الخانقاهات ليس في ايران فحسب بل وفي العالم الاسلامي ايضاً.
مستمعينا الافاضل! من بين الحكايات التي يوردها مؤلف الكتاب محمد بن منوّر عن كرامات واحوال جدّه الشيخ ابي سعيد ابي الخير، حكاية طريفة نلقي بعهدتها على الراوي مكتفين بما تشتمل عليه من دروس وعبر، ومعلومات تقدمها الينا عن المذاهب الصوفية والعرفانية في القرن السادس الهجري.
ينقل مؤلف الكتاب هذه الحكاية عن احد الاشخاص الذين تأثروا بشخصية الشيخ ابي سعيد ابي الخير، وسلك سبيل العرفان والتصوف على يده ويدعى الخواجه حسن المؤدّب حيث يقول: (عندما ذاع خبر مجيء الشيخ الى نيسابور من ميهنة، واقامته لمجالس الوعظ والارشاد فيها، واخباره بسرائر واسرار عباد الله، دفعني حبُّ الفضول الى ان احضر مجلسه وكنت اعتبر المتصوفين والعرفاء اناساً وضيعيين وذليلين، واقول لنفسي: ان التصوف ليس بعلم، فكيف يقيم هذا الشيخ مجالس الارشاد، ويدّعي انه يحيط علماً باسرار خلق الله تعالى في حين لا يعلم الغيب سواه عزوجل؟!
فحضرت يوماً على سبيل الاختبار مجلس الشيخ، وجلست عند كرسيّه وانا ارتدي الثياب الفاخرة، واضع على رأسي عمّة طبريّة، واحمل بين ضلوعي قلباً مليئاً بالانكار والشكوك، وكان الشيخ منشغلاً بحديثه، وعندما بلغ النهاية، طلب من الحاضرين ثوباً لاحد الفقراء على عادة اهل التصوف.
فحدثني قلبي ان اعطيه عمامتي، الا انني حدثت نفسي قائلا: لقد قُدّمتْ لي هذه العمامة كهدية من آمل، وثمنها يبلغ عشرة دنانير نيسابورية، الافضل اذن ان لا اعطيها!، فذكر الشيخ مرة اخرى العمّة، فوقع في قلبي مرة اخرى ان اقدّم عمّتي، الا انني طردت هذه الفكرة من بالي وراودتني الفكرة الاولى نفسها.
ويستمر الراوي قائلا: وكان هناك شيخ عجوز جالس الى جانبي، فسأل الشيخ قائلا: (يا شيخ! هل يتكلم الحق سبحانه وتعالى مع العبد؟
فقال الشيخ: نعم يتكلم، الا انه لم يتكلم اكثر من مرتين في العمّة الطبريّة مع ذلك الرجل الجالس الى جانبك، فقد قال له مرّتين أنْ اعْطِ العمّة التي ترتديها على رأسك الى هذا الفقير، الا انه امتنع عن الاعطاء متذرعاً بان قيمتها عشرة دنانير، وانها قد جُلبت له هدية من آمل!).
يقول الراوي: وعندما سمعت هذا الكلام ارتعدت فرائصي، ومثلت امام الشيخ، وقبّلت ما بين عينيه، واعطيت ثيابي كلّها لذلك الفقير، ولم يبق في نفسي ايُّ شكٍ وانكار، وشعرت انني قد اعتنقت الاسلام من جديد، وبذلت كلّ ما امتلك من اموال لخدمة الشيخ ومجالسه ومريديه، وقصرت نفسي على خدمته حتى نهاية العمر.
اعزتنا المستمعين! ننهي هنا جولتنا لهذا الاسبوع في رحاب كتاب (اسرار التوحيد) للشيخ ابي سعيد ابي الخير كواحد من روائع التراث الايراني.
على ان نكمل هذه الجولة في حلقة الاسبوع المقبل باذن الله. فشكراً على حسن المتابعة. والى الملتقى.
*******