احبتنا المستمعين الافاضل! ذكرنا في حلقة البرنامج السابقة ان كتاب (سياستنامه) و(سير الملوك) مشحون بالاضافة الى الوصايا والارشادات بشأن السياسة المثلى لتدبير شؤون البلاد بالقصص والحكايات المعبرة، وذكر اخبار وسير الملوك والحكام والامراء الذين سبقوا عصر نظام الملك او ممن كانوا يعاصرونه.
وفي هذه الحلقة من البرنامج سنورد لكم اعزتنا المستمعين طائفة من تلك الاخبار والحكايات التي اراد المؤلف من خلالها ان يؤيد الآراء، ووجهات النظر التي ذكرها بخصوص الطريقة المثلى لادارة شؤون الحكومة والبلاد.
ومن جملة هذه الحكايات والقصص يسردها لنا نظام الملك حكاية ذكرها تحت عنوان (يوسف وكُرْسُف) وهي من القصص المروية عن بني اسرائيل حيث يذكر لنا مؤلف الكتاب ان مما كان مرسوماً في زمان بني اسرائيل ان من استطاع ان يصون نفسه عن ارتكاب الكبائر مدة اربعين عاماً، وانشغل طيلة هذه المدة بالصيام والقيام، وعدم ايذاء اي مخلوق، كان حقاً على الله ان يقضي له ثلاث حوائج، وان ييسر له كل ما اراده.
وفي ذلك الزمان كان هناك رجل من بني اسرائيل ورعٌ ومحسن اسمه يوسف، اما زوجته فقد كان اسمها (كُرْسُف)، وكانت هي ايضاً امرأة تقية وعفيفة، وقد عبد يوسف الله عزوجل اربعين سنة واستوفى الشروط السابقة، ففكر في نفسه ان يطلب من الله تعالى حاجة هي الافضل من غيرها، فلم يهتد الى شيء، فلزم البيت، ووقعت عينه على زوجته فقال في نفسه:
(لو بحثت في العالم كله عن شخص يحبني لما وجدت من يحبني اكثر من زوجتي، فهي شريكتي، وامُّ اولادي، والافضل لي من بين الخلق، فالصواب اذن ان استشيرها في ذلك، فقال لها:
اعلمي انني قد استكملت طاعة اربعين سنة، ولي ثلاث حاجات ان طلبتها من الله قضاها لي، فماذا تقولين، وماذا تقترحين عليّ ان أطلب من الله عزوجل؟
فأجابته زوجته قائلة: انت تعلم ان ليس لي غيرك في هذا العالم، وانك قرة عيني، وان النساء زينة للرجال وحرث لهم، فأسال الله تعالى ان يمنحني جمالاً لم يمنحه لاحد من النساء، حتى تقرّ عينك بالنظر اليّ، ويفرح قلبك دوماً اذا وقع نظرك عليّ، فنعيش في سعادة وهناء ما دمنا في هذه الحياة.
فأعجب الرجل بحديث زوجته، فمدّ يديه بالدعاء وقال: (اللهمّ امنح زوجتي من الحسن والجمال ما لم تمنحه احداً من النساء، فاستجاب الله لدعاء يوسف، فاصبحت زوجته وهي على هيئة من الجمال ما لم تكن عليه في الليل، فلقد اصبحت تحظى بجمال لم تقع عليه العين من قبل).
وما كان من يوسف الا ان انبهر بهذا الجمال، وعقدت لسانه الحيرة حتى ان الدنيا لم تكن لتسعه من شدة الفرح خصوصاً وان جمالها وحسنها كانا يزدادان يوماً بعد آخر.
وفي ذات يوم كانت امرأته تنظر في المرآة، وتتأمل ما وهبها الله سبحانه من جمال، فدبّ الى نفسها الكبر والغرور وحدثت نفسها قائلة: ترى هل يليق بي وانا على هذا القسط الوافر من الجمال ان اعيش مع رجل طعامه خبز الشعير ولا حظّ له من الدنيا، ويجعلني احيا في ضنك من العيش، ان جمالي هذا لا يليق الا بالملوك والامراء الذين ان عثروا عليّ اغرقوني بالذهب والمجوهرات!
ومنذ ذلك الحين بدأت المرأة تتمرد على ارادة زوجها، وتناصبه العناد واللجاج، وتتعامل معه بجفاء، وتعيره دوماً بالفقر والعوز، وكان لها منه ثلاثة اطفال تركت رعايتهم، وتعهد امرهم، واهملت اعمال البيت حتى بلغ امرها درجة بحيث ان يوسف ضاق بها ذرعاً، وعجز في امرها، فرفع طرفه الى السماء ودعا ربّه قائلا: اللهم اجعل هذه المرأة على هيئة دبّ!، فتحولت امرأته من فورها الى دبّ، وذاقت نكال اعمالها، فكانت تلازم البيت ولا تخرج منه، وتقضي ايامها بالبكاء.
اما يوسف فقد اصبح عاجزاً عن تربية اطفاله الصغار، والتعهد برعايتهم، وقضاء حوائجهم والقيام بأمور البيت حتى ان الصلاة كانت تفوته، فدعته الضرورة الى ان يمدّ يده بالدعاء الى السماء قائلا: اللهم اَعِدْ زوجتي الى سابق عهدها، واجعلها امرأة قنوعاً تتعهد هؤلاء الاطفال الصغار بالرعاية كما كانت حتى انشغل بعبادتك، واتفرغ لخدمتك كما كنت.
وعادت زوجته الى سابق عهدها في الفور دون ان تتذكر شيئاً مما حدث لها بل انها ظنت ان ما وقع لها كان مجرد حلم رأته في المنام وبذلك تحولت عبادة يوسف التي استغرقت منه اربعين عاماً الى هباء منثور، وحبطت اعماله بسبب هوى النفس، وسلوك زوجته...).
اخوتنا المستمعين! ومن بين القصص والحكايات المعبرة الاخرى التي يرويها لنا الخواجه نظام الملك في كتابه سياستنامه او سير الملوك كشاهد على ان الحاكم من المفترض فيه ان يتتبع امور ولاته، وعمّاله، وان يبعث اليهم بالعيون لكي يحيط بأمرهم علماً، ويتأكد من انهم لا يظلمون الرعية، ولا يرهقونهم بما لا يستطيعون.
حكاية عن احد الملوك، الذي كان جالساً ذات مرة مع ندمائه، فقال لهم: (هناك اميران للحرس يعملان في بلاطي لا عمل لهما من الصباح حتى المساء سوى قطع الرقاب، والايدي والارجل، والجلد، والسجن، الا ان الرعية تمتدح احدهما دوماً، وتشعر بالرضى منه، وتقدم له فروض الشكر، في حين تذم الاخر، وتلعنه ان ذكر اسمه، وتشكو منه دائماً، وانا لا اعلم ما هو السبب، واريد من احدكم ان يتحقق في الامر، ويكتشف لي السبب...).
فقال احد الندماء: ان امهلتني ايها الملك ثلاثة ايام، فسوف اكتشف لك السبب، واوضح الامر، فقال له الملك: لك ذلك، فذهب هذا النديم الى بيته، وقال لاحد الخدم الكفوئين: (عليك ان تقوم بعمل لي، ففي بغداد اميران للحرس، احدهما شيخ كبير، والآخر كهل، وعليك ان تذهب غداً عند السحر الى بيت الامر العجوز، وتراقبه عن كثب، وترى ما يفعله، وما يقوله، وما يأمر به، وما يصدر منه من احكام عندما يحضر في مجلسه الناس، ويأتون اليه بالمجرمين، ثم تخبرني بذلك، وعند فجر الصباح اليوم التالي اريد منك ان تذهب الى بيت الامر الكهل، وتفعل ما فعلته بشأن الامير العجوز).
وفي سحر اليوم التالي ذهب الخادم الى بيت الامير العجوز، وبعد مدة، جاء فرّاش، ووضع الشموع على الدكة، وبسط سجادة الصلاة، ووضع عليها مصحفاً، ومسبحة، وكتب ادعية، ثم ما لبث ان جاء الامام، وصلوا جماعة، ثم قرأ الامير العجوز شيئاً من القرآن والادعية، وانشغل بالتسبيح فيما كان الناس يفدون الى مجلسه مسلمين عليه، حتى طلعت الشمس.
فسأل الامير قائلا: ألم يأتوا اليوم بمجرم؟
فقيل له: جيء لنا بشاب ارتكب جريمة قتل، فقال: هل هناك من يشهد عليه؟
فقيل: لا، فهو مقرّ بجريمته.
فقال الامير: لا حول ولا قوّة الا بالله العلي العظيم، آتوني به كي انظر في امره، وعندما وقع نظر الامير عليه قال متعجباً: أهذا هو! انه لا تبدو عليه سيماء المجرمين، بل ان امارات النجابة، ونور الاسلام يشّعان من وجهه، لا اظن ان مثل هذه الجريمة قد صدرت منه، لقد كذبوا عليه، وانا لا اصدق قول احد فيه.
وظلّ امير الحرس العجوز يمتدح الشاب، ويطري عليه، ويدافع عنه وينفي عنه التهمة، وكان قصده من ذلك ان يتراجع الشاب عن اقراره على نفسه، وينفي التهمة عنه، وينكرها وهنا التفت الى الشاب وسأله عما يقوله، فقال الشاب: لقد شاء القضاء ان ارتكب تلك الجريمة جهلاً وخطأ، وهناك في انتظاري عالم آخر، ولا اطيق احتمال عذاب الله عزوجل في ذلك العالم، فأجْرِ عليّ حكم الله!.
فحاول الامير مرة اخرى عسى ان يرجع عن اقراره على نفسه، وطلب منه ان يتروى في ذلك، وان يفكر في الامر، وان يحدثه بصراحة فيما اذا كان هناك اعداء اجبروه على ان يقرّ على نفسه بجريمة لم يرتكبها الا ان الشاب اصرّ قائلا: ايها الامير، لم يجبرني احد على ذلك، واني اقرّ بجريمتي، واطلب منك ان تنفذ حكم الله فيّ.
وحينئذ التفت الامير الى من كان حاضراً في المجلس قائلا: ايها الناس هل رأيتم الى الآن شاباً مسلماً يخشى الله تعالى ويفكر في عاقبته كهذا الشاب، ان نور السعادة، والاسلام، والتربية الصالحة ليشع من وجهه كما يشعّ الضياء من الشمس، انه يقرّ خوفاً من الله، اني لأظنّه سيحشر مع الشهداء والصديقين وسينعم في قصور الجنة مع الحور العين، ثم امر الشاب ان يغتسل، ويصلي ركعتين، وان يطلب التوبة من الله، ويستغفره، حتى يكون مستعداً لتقبل حكم الله فيه، ففعل الشاب ذلك وهو اشدّ ما يكون اشتياقاً الى الموت بعد ان سمع كلام الامير.
وما هي الاّ لحظات حتى حضر السيّاف، وفصل رأس الشاب عن جسده في لحظة واحدة هي كلمح البصر، وتفرّق الناس، وعاد الخادم الى النديم، وحكى له كل ما رآه من عجائب وغرائب امر ذلك الامير.
مستمعينا الاعزاء! في حلقة الاسبوع المقبل سنستكمل سرد احداث هذه القصة العجيبة التي رواها لنا نظام الملك في كتابه سياستنامه.
حيث سيبظل العجب عندما نعرف السبب، وعندما نحيط علماً بمغزى هذه الحكاية المعبرة. فحتى ذلك الحين نستودعكم الله، والى الملتقى.
*******