اعزتنا المستمعين! من بين الروائع الاخرى الكثيرة التي يزخر بها التراث الاسلامي في ايران.
كتاب (سياستنامه) او (سير الملوك) لمؤلفه ابي علي الحسن بن علي بن اسحاق المعروف بلقب (نظام الملك). وُلِدَ هذا العالم والوزير عام 408 هـ في قرية من قرى طوس الا ان اجداده ينحدرون من مدينة بيهق بسبزوار.
وقد كان نظام الملك يعمل في الكتابة الديوانة في ايام سيطرة التركمان على خراسان والتي بدأت منذ عام 428هـ حيث كان يستلم مقاليد حكومة بلخ في تلك الفترة ابو علي بن شادان.
وعندما سيطر الجَغري والد ألب ارسلان على ترمذ وبلخ اختار ابا علي بن شادان وزيراً له، وبذلك انخرط نظام الملك في خدمة السلاجقة، واوكل اليه ابو علي رئاسة ديوان ألب ارسلان ابن الجغري، وتدبير شؤونه.
وبعد ان وصل ألب ارسلان الى الحكم اوكل الوزارة الى نظام الملك بدلا من ابي نصر الكندري، حيث بقي في هذا المنصب منذ عام 456هـ وحتى العاشر من شهر رمضان من عام 485هـ وهو التاريخ الذي قُتِلَ فيه.
وقد مارس نظام الملك مهامه بكل استقلالية وقوة بحيث ان الفضل في الشهرة التي حققها الملكان السابقان يعود الى حكمة، ومهارة هذا الوزير.
وفيما يتعلق بقصة تأليف كتاب سياستنامه او سير الملوك فقد قيل في هذا المجال ان ملكشاه طلب في اواخر سلطنته من عدد من الوزراء ان يولفوا كتاباً في باب الاسلوب الافضل لادارة البلاد، وتدبير الشؤون الدينية والدنيوية حتى يتخذ فيه منهاجاً في سياسته.
فكتب كل واحد منهم كتاباً، الا ان الملك استحسن من بينها الكتاب الذي الفه الخواجه نظام الملك، ثم امره باتمامه، واضافة فصول اخرى اليه.
وفي سفره الاخير مع ملكشاه الى بغداد في عام 485هـ، دفع باجزاء كتاب سير الملوك الى ناسخ الكتب السلطانية الخاصة محمد المغربي لكي ينسخها ويقدم هذه النسخة الى السلطان فيما اذا وقع حادث لنظام الملك.
واستناداً الى ما ذكره المؤرخون فقد تم جمع وتنظيم النسخة النهائية لكتاب سياستنامه او سير الملوك، بعد مقتل الخواجه نظام الملك اي ما بين عامي 492 و505هـ.
مستمعينا الافاضل! يشتمل هذا الكتاب السياسي والاخلاقي الخالد على خمسين فصلاً يبدؤها المؤلف بطرح بعض من التعاليم والقوانين الاخلاقية والسياسية، ثم يورد حينئذ حكايات، وقصصاً مختلفة بعضها قصير، والآخر طويل حسب ما يقتضيه المقام شافعاً اياها بآيات من القرآن الكريم، واحاديث وروايات عن النبي الاعظم صلى الله عليه وآله.
ويعدُّ نثر هذا الكتاب من النوع السلس البسيط الجذاب والبعيد عن التكلف، والتعقيد، فالالفاظ والتراكيب لطيفة، وجميلة ومتواجدة بكثرة في الكتاب، ولا نرى فيه عبارات ركيكة وممجوجة الا نادراً.
وكما اشرنا فيما مضى فان كتاب سياستنامه يدور موضوعه الرئيس حول اسلوب، ومنهاج ادارة البلاد، وتدبير الشؤون الدينية والدنيوية، وهو مشحون في نفس الوقت بالمواعظ الاخلاقية، والحكم، وهو كما يقول عنه المؤلف نفسه: (... يجمع بين الموعظة والحكمة، والامثال، وتفسير القرآن، واخبار النبي، وقصص الانبياء، وسير وحكايات الملوك العادلين، فمن الماضين خبر، ومن الباقين سمر، وهو مختصر رغم غزارة المواضيع، ويليق بالملك العادل...).
واذا ما غضينا النظر عن القصص والحكايا المعبرة التي يتضمنها هذا الكتاب، وقصص واخبار الملوك والامراء والوجهاء الموجودة فيه، فان هذا الكتاب يحظى باهمية خاصة من ناحية دراسة التاريخ السياسي والاجتماعي، فلقد انصب الاهتمام فيه على القيمة العملية للقضايا والمسائل المختلفة اكثر من جانبها النظري.
فنظام الملك لا يهتم في كتابه هذا بقضية تعيين افضل انواع الحكم، والعدالة المجردة، اما يصطلح عليه اليوم باسم (النظرية الحقوقية) بل انه يهتم بتسليط الاضواء على امور من الممكن ان تسهم في تثبيت اساس الحكم.
ولعلنا نستطيع ان نعتبر كتاب سياستنامه او سير الملوك من جملة المصادر التي يستطيع الباحثون من خلال تأمل، ودراسة تفاصيلها، ومقارنتها مع الكتب الاخرى ان يسلطوا الاضواء اكثر على ذلك الموضوع المهم.
احبتنا المستمعين الاكارم! يخصص الخواجه نظام الملك احد فصول كتابه سير الملوك للحديث عن عمّال او ولاة الحاكم او الخليفة وما يجب ان يتحلوا به من صفات، وما يجب على الخليفة والحاكم ان يتحراه فيه فيقول في هذا المضمار: (عندما يوكل عمل من قبل الحاكم الى العمال فان من الواجب عليه ان يوصيهم ان يحسنوا التعامل والسيرة مع خلق الله تعالى، وان لا يأخذوا سوى ما حقّ من مال وبالمداراة وحسن الخلق، وان لا يقبضوا منهم هذه الاموال حتى تنضج محاصيلهم ويحين وقت حصادها، فانهم اذا طلبوها منهم قبل ذلك حملوهم ما لاطاقة لهم به، فيضطرون الى بيع محاصيلهم بأبخس الاثمان، فيبتلون بالفقر والفاقة...).
(... واذا ما اصبح احد الرعية عاجزاً، واضحى محتاجاً الى الزرع والضّرع، فان عليهم ان يقرضوه، ويخففوا عليه حتى يستطيع ان يقيم اوده، وان لايبتلى بالتغرّب والتشرّد عن داره...).
ويروي نظام الملك في هذا المجال حكاية عن احد الملوك القدامى، والتدبير الذي قام به عندما ابتليت مملكته بالقحط في احدى السنين فيقول: (سمعت ان سبع سنوات من القحط حلّت على العالم في زمان الملك قباد، وانقطعت البركات من السماء، فأمرعمّاله وولاته ان يبيعوا الغلات التي كانوا يحتفظون بها، وان يتصدقوا بالبعض منها، ويساعدوا من بيت المال والخزانة الفقراء والمعدمين حتى ان احداً من رعيته لم يمت من الجوع في تلك السنوات السبع...).
ويوصي الخواجه نظام الملك الحاكم ان يسأل عن احوال وزرائه ومعتمديه في السرّ حتى يرى ما اذا كانوا يسيّرون الامور والاعمال على وجهها، ذلك لان صلاح وفساد الملك والمملكة مرتبطان بسيرة الولاة، فاذا كان الوزير حسن السيرة صلح امر البلاد، وغمر الرضى والارتياح الجيش والرعايا، ونَعِمَ الملك براحة البال وصفائه.
واذا ما كان الوزير سيّء السيرة متعاملاً مع الرعية بالاثم والعدوان، مفسداً للامور الى درجة بحيث لا يمكن تلافي هذا الفساد، فان الملك سيكون متحيراً دوماً، ومتألّم القلب والخاطر، وسيعمّ الاضطراب والفوضى البلاد.
مستمعينا الاكارم! ويبسط مؤلف كتاب سير الملوك في فصل آخر الحديث عن مرفق مهم آخر من مرافق الدولة الا وهو جهاز الحرس وما يجب ان يكون عليه، فيؤكد في هذا الصدد ان امارة الحرس تمثل واحداً من الاعمال المهمة والخطيرة الشأن في كل زمان، فليس هناك في بلاط الملوك من هو اعظم منزلة من امير الحرس سوى امير الحجّاب ذلك لان شغله مرتبط بالسياسة بشكل مباشر، فهو عضد الملك، ويده التي يصول بها.
ويوصي نظام الملك الملوك والحكام ان يتقوا الله جل وعلا في هذا الجهاز المهم والحيوي من اجهزة الدولة، وان يجعلوه اداة لخدمة الخلق، واحقاق الحق، وابطال الباطل، واغاثة المظلوم، وقطع دابر الظالم، وانزال العقوبة عليه بحيث لا يحدث نفسه بعد ذلك في ظلم الاخرين.
وان لايستغلوا هذه القوة الضاربة في تثبيت دعائم حكمهم على حساب الرعية، ويحذروا كل الحذر من ان يحولوها الى وسيلة للقمع، وممارسة الظلم، وجمع الاموال، وتحميل الرعية ما لاتطيقه، وارهاقها بما لاتستطيع الصبرعليه، فان في ذلك خيانة لامانة الله تعالى فيهم، وعدم التزام بشروط خلافته في الارض.
فلقد امر الخالق جلا وعلا الملوك والحكام بان يسيروا بالعدل في الرعية، وان لايسوّغوا لانفسهم ان يظلموهم ولو بمقدار ذرة، ولا يسيؤوا استغلال القوة والامكانيات التي حباهم الله في ابتزاز الاموال من العباد، وقسرهم على الطاعة والامتثال.
وان يشكروه عزوجل على نعمة السلطة والاقتدار من خلال استغلالها في نشر الرفاهية بين الناس، واعمار البلاد، وتوفير الامن وضمانة، وحماية المظلوم، ودفع العدوان عن البلاد بدلا من الانشغال في القمع والارهاب، واستنزاف وهدر قوى وقدرات البلاد فيما لا طائل من ورائه، وما لايخدم الا مصالح اعداء الدين.
وفي هذا المضمار يورد الخواجه نظام الملك الكثير من القصص والحكايات التي تستبطن العديد من الدروس والعبر في مضمار الطريقة الامثل لادارة شؤون البلاد، وتسيير دفة الحكم.
هذه القصص والحكايا سنستعرض اخوتنا المستمعين جانباً منها في حلقة الاسبع المقبل باذن الله. فحتى ذلك الحين نستودعكم الرعاية الالهية. وكونوا في انتظارنا.
*******