مستمعينا الاحبة! سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته. جولة ممتعة ومفيدة نرجوها لكم في حلقة اخرى من حلقات برنامجكم المتجدد (عبارات واشارات).
حيث الكلمة الطيبة، والحكاية المعبرة، والاحاديث المفعمة بالدروس والعبر عبر اسفار وروائع التراث الاسلامي في بلاد ايران.
اعزتنا المستمعين! الوصية الاولى التي يوصي بها الامير عنصر المعالي ولده في كتابه التربوي الاخلاقي قابوسنامه هي معرفة الله جل وعلا.
حيث يقرر في هذا المجال ان معرفة الذات الالهية متعذرة على الانسان بقابلياته، ومداركه المحدودة، ذلك لان الذات الالهية المقدسة واجبة الوجود، والانسان ممكن الوجود، ومن المعلوم ان ما امكن وجوده لايمكنه مطلقاً ان يدرك ويحيط علماً بما وجب وجوده.
وفي هذا المجال يورد صاحب قابوسنامه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله ينهى فيه العبد عن التفكّر في ذات الله، ويوصيه بدلاً من ذلك في التفكّر، والتأمّل في مخلوقاته، وآياته، وآلائه ذلك لان التفكّر في ذات الخالق سبحانه لايزيد صاحبه الا حيرة، وبُعداً عن الحقيقة.
يقول نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وآله في هذا الصدد: (تفكّروا في آلاء الله ونَعْمائه، ولاتتفكّروا في الله)، فالطريق الوحيد لمعرفة الخالق سبحانه وتعالى، هو التأمّل في آثاره، والتفكّر في آياته المبثوثة في ارجاء الكون لكي يزداد الانسان من خلال هذا التفكّر والتأمّل ايماناً ببارئه، ومعرفة به من خلال معرفة صفاته المتجسدة في كل جزء من اجزاء هذه الحياة وفي مقدمتها نفس الانسان ذاته.
اخوتنا المستمعين! وبعد ان يبسط عنصر المعالي الحديث عن ضرورة معرفة الخالق جل وعلا كمقدمة لجميع انواع المعارف الاخرى، ولانطلاقة الانسان في حياته، وتعامله مع نفسه، ومع الآخرين، يفرد فصلا آخر عن ضرورة ان يتحلى الانسان بالعقل والادب لكي يزداد بذلك شرفاً، ومرتبة.
فيقول المؤلف في هذا الصدد موجهاً وصيته الى ولده: (اعلم نبيّ ان الاشخاص الذين يفتقرون الى الفن والادب عديمو الفائدة دوماً، وهم يشبهون بذلك شجرة (المغيلان) التي تمتلك هيكلاً الاّ انها لا تلقي ظلاً، فلا هي تنفع نفسها، ولا هي تنفع غيرها.
والاناس الاصلاء وذوو النسب الرفيع موقرون ومحترمون من قبل غيرهم حتى وان لم يكونوا يمتلكون خطاً من الادب والفن، الا ان الاسوأ من ذلك الانسان الذي يفتقر الى كل من النسب الاصيل، والادب والفن...).
مستمعينا الافاضل! ومن جملة الوصايا الاخرى التي يلقيها الامير عنصر المعالي للجيل الشاب والصاعد بشكل عام، ولولده بشكل خاص، ان يسعى دائماً من اجل ان يكون ممدوح الاخلاق بين الناس، وان يحرص على ان لا يكون ممدوحاً من قبل الجاهلين، ذلك لان الممدوح من قبل العامة مذموم من قبل الخاصة.
وتأييداً لهذه الوصية يذكر صاحب القابوسنامه حكاية معبرة عن الفيلسوف اليوناني المعروف افلاطون يقول فيها: (قيل ان افلاطون كان ذات يوم جالساً بين وجهاء المدينة وخاصتها، فدخل عليه رجل وسلّم عليه وتحدث في موضوعات شتى وفي اثناء حديثه قال: ايّها الحكيم! رأيت اليوم الرجل الفلاني وكان يتحدث عنك، ويدعو لك، ويثني عليك بكل خير قائلا ان افلاطون رجل عظيم لم ولن يظهر رجل مثله، فأردت ان اوصل شكره اليك.
وعندما سمع افلاطون هذا الكلام، طأطأ رأسه، وبكى، وبدا عليه الانقباض، فقال له الرجل: ايّها الحكيم! هل آذيتك في شيء لكي تشعر بالحزن والانقباض الى هذه الدرجة؟!...).
(...فقال افلاطون: لم يلحقني اذى منك، ولكن ايّ مصيبة اعظم لي من ان يمدحني جاهل، ويعجبه عملي؟! فأنا لا اعرف اي فعل اتيته عن جهل فأصبحت بذلك قريباً من طبعه، فأعجبه، وحمله على مدحي!...).
اخوتنا المستمعين! ويوصي المؤلف بعد ذلك ولده بان يكون عليماً باصول الكلام، عارفاً بمداخله ومخارجه، وان يحذر من الكذب، ويسعى من اجل ان يكون معروفاً بالصدق بين الناس حتى يقبلوا منه الكلام ان ألجأ في يوم من الايام الى الكذب مضطراً...).
ويشدد الاب على ابنه في ان يكون كل ما يصدر منه من حديث صدق محذراً اياه من ان يقول الصدق الشبيه بالكذب ذلك لان الكذب الاشبه بالصدق افضل من الصدق الشبيه بالكذب، فذلك الكذب مقبول، في حين ان هذا الصدق غير مقبول.
اعزتنا المستمعين! ويرى عنصر المعالي ان لكل كلام وجهين، وجهاً حسناً، وآخر قبيحاً، وهو يوصي ابنه في هذا المجال ان يحدث الناس على افضل واحسن وجه لكي يكون هذا الحديث مقبولاً، ولكي يعرف الناس قدره ودرجته ذلك لان الكبار والعقلاء انما يُعْرَفون بكلامهم في حين ان الكلام لا يُعرَف بالناس. فالانسان مخبوء تحت لسانه، والشاعر يقول في هذا الصدد:
وكم من صامت لك معجبٍ
زيادته او نقصانه في التكلّمِ
كما تقول الحكمة المعروفة: «المرءُ بأصغريه، قلبه، ولسانه».
وفي هذا الصدد يورد المؤلف حكاية طريفة معبرة تدل على دور الكلام، واسلوبه، وطريقة القائه حسب الحالات والمواضع المختلفة في التمخض عن نتائج وردود فعل مختلفة رغم ان الموضوع، او الخبر الذي يريد المتكلم ان يلقيه من وراء كلامه هو واحد.
يقول الامير عنصر المعالي في هذا المجال: (سمعت ان هارون الرشيد رأى في المنام ان اسنانه كلها سقطت من فمه، فأرسل في الصباح في طلب مفسّر للاحلام، وسأله عن تفسير هذا المنام.
فقال المفسّر: اطال الله عمر امير المؤمنين! سيموت جميع اقاربك قبلك حتى لا يبقى احد من ذويك.
فقال هارون: اضربوا هذا الرجل مائة جلدة لانه تفوّه بمثل هذا الكلام المؤلم لي، فما بقائي بعد موت جميع اقاربي قبلي؟!...).
(... وحينئذ اتى هارون الرشيد بمفسّر آخر للاحلام، واخبره بالمنام نفسه، فقال المعبر: ان الرؤيا التي رآها امير المؤمنين لتدلّ على ان الله منحه عمراً اطول من جميع اقاربه.
فقال هارون: طريق العقل واحد، لقد كان الحلم واحداً، والتفسير واحداً، ولكن هناك فرق بين عبارة واخرى، وأمر ان يمنح هذا الرجل مائة دينار!...).
وبعد ان يورد صاحب كتاب قابوسنامه الحكاية السابقة، يحذر في فصل آخر من وصيته ولده من الافراط في الامور، ذلك لان الافراط شؤم، والاعتدال مطلوب في جميع الاعمال، فصاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وآله يقول في هذا المجال: (خير الامور اوسطها).
وفي هذا الاطار يوصي ولده ان يكون متأنياً في اداء كلامه فلئن يذمّ على وقاره وبطئه في الكلام خير له من ان يذم على خفته وسرعته في هذا الكلام.
ثم يحذر من محاولة الاطلاع على سر لا يتعلق به، ومن البوح بسر يخصه، وان يكون قليل الكلام، كثير العمل، حريصاً على المعرفة والعلم بدلاً من الحرص على الثرثرة والكلام ذلك لان الثرثرة تدل على الجهل، وخفة العقل وقلته.
مستمعينا الاكارم! في حلقة الاسبوع المقبل سنكمل باذن الله شوطاً آخر من تجوالنا في رحاب هذا السفر الاخلاقي قابوسنامه. فكونوا في انتظارنا شاركين لكم حسن الاصغاء والمتابعة. وراجين ان تتقبلوا تحيات اسرة البرنامج.
*******