احبتنا المستمعين الافاضل! مرحباً بكم عبر تطواف آخر لنا نصطحبكم من خلاله في جنبات التراث المعرفي الذي سطرته اقلام جهابذة المعرفة والادب في بلاد ايران.
حيث نستكمل معكم قسماً آخر من جولتنا في رحاب سفر العرفان والادب الخالد (منطق الطير). للعارف والعالم الجليل فريد الدين العطار النيسابوري.
مستمعينا الاحبة! كثيراً ما نرى العطار في منظومته يذمّ النفس البشرية بل انه يشبّهها بكائن متمرد لايطيع امراً مطلقاً، فالنفس هي بمثابة العدو الاول له، وبمثابة اللص الذي يسرق منه اسرار الطريق فيقول: (انّ نفسي لي عدو، فكيف اقطع الطريق اذا كان رفيقي لصّاً، فالنفس لم تطع لي امراً مطلقاً، ولا اعلم كيف احرّر الروح من ربقتها...).
واذا كانت النفس العدو الاول فلا سبيل الى الكمال الا بافناء هذه النفس: (وان تُفْنِ نفسك ذات يوم فستُطّل الاشراقة في حياتك حتى لو كانت الليالي كلها حالكة...).
كما يشبّه العطار النفس البشرية في جبروتها بفرعون، ويربط بينها وبين الشيطان في ارتكاب الآثام والمعاصي: (وما دامت لك نفس وشيطان، ففي داخلك فرعون وهامان...).
وقد تكون النفس - حسب الرؤية العطارية- كالثعبان، والعقرب في الغدر وايصال الاذى الى الانسان: (فطَهر نفسك من الصفات الذتية، ولتصر بعد ذلك الى العدم، وانّى لك ان تعلم ما بجسدك من ادران واوساخ، فالثعبان والعقربان خفيان تحت حجبك، وقد ناما، واخفيا نفسيهما...).
وهكذا نجد العطار يذم النفس البشرية، ويصفها بصفات الخسّة والدناءة، شأنه في ذلك شأن الزُّهاد والعرفاء الاخرين متأثراً في ذلك بالقرآن الكريم، واقوال الفقهاء والشيوخ الذين سبقوه.
اعزتنا المستمعين! والدنيا - كما هو معلوم- دار فناء، والآخرة دار بقاء، ولذلك يسعى العرفاء دوماً الى الفناء حتى يحظوا بالبقاء، اي انهم يسعون الى التخلص من الدنيا وآثامها وشرورها حتى ينعم الله تعالى عليهم بالمكانة الرفيعة في الاخرة، فينعموا بالبقاء الابدي بعد ان افنوا انفسهم وقطعوا كل صلة لهم بدار الغرور.
والعطار - كعامة العرفاء- يذم الدنيا، وينفر منها، ويدعو الى التحرر منها في كثير من ابياته في منطق الطير، وهو يشبهها في مواضع كثيرة بموقد مشتعل فلا يستقر فيها انسان في هدوء وسكينة.
كما ان العطار يصفها كذلك بانها شبيهة ببيت العنكبوت، وما الساكن فيها الا كذبابة تتردى في هذا البيت حتى يصيبها الفناء والبلاء بعد ان يمتصها العنكبوت.
كما يحذر فريد الدين السالكين من الدنيا، ويعتبرها ناراً محرقة يجب الاحتراز منها: (وما نارك الا الدنيا فابتعد عنها، وافعل كما فعل الابطال، وكن حذراً من هذه النار...).
واذا كانت الدنيا على هذه الصورة في نظر العطار فلا يمكن ان تكون محببة الى قلبه بل على العكس من ذلك نجده يدعو الى التخلي عنها، ويعتبر ان الخطوة الاولى في الطريق يجب ان تقترن بالتخلي عن الدنيا، كما يشير الى ذلك في قوله:
(فان تتخلّ عن الدنيا في كل لحظة، فستكون لك الخطوة الاولى عندما تمعن النظر...).
اخوتنا المستمعين! ولاشك في ان العطار يتفق مع الروح الاسلامية في موقفها من الشيطان في النفور منه، وانه يلقي بمن يتبعون اوامره ووسوسته الى التهلكة، وقد اطلق عليه كما ذكر في القرآن الكريم لقب (الملعون) و(الرجيم)، فقد قصّ العطار قصة ابائه السجود كما امره الله في مقدمة (منطق الطير) قائلا:
(ومن ابى السجود لآدم فقد مُسخ ولم يدرك هذا السرّ، وما ان اسوّد وجهه حتى قال: يا غنيّ لاتتركني ضائعاً، واصلح من امري، فقال الحق تعالى ايّها الملعون في الطريق! ان آدم ما هو الا خليفة وسلطان، فكن اليوم عيناً لوجهه، وفي الغد اَحرق له البخور...).
كما اشار العطار الى ان ابليس قد اصيب العديد من البلايا لانه حاول التفاخر على آدم وقال: «انا خير منه خلقتني من نار، وخلقته من طين» (الاعراف، 12).
والعطار يشير الى ذلك بقوله: (ولا تقل (أنا) حتى لا تبتلي بشرور ابليس، فكلمة (أنا) تجلب العديد من البلايا...).
اخوتنا المستمعين! في هذه الحلقة، وفي خلال حلقة الاسبوع المقبل نورد لحضراتكم بعد ان جُلنا في حلقات البرنامج السابقة في رحاب فكر العطار العرفاني، نصوصاً مختلفة من منظومة منطق الطير.
تجمع بين الحديث المفيد، والحكاية الممتعة الطريفة، والقصص ذي المرامي الاخلاقية والعرفانية.
ففي مقدمة الكتاب يذكر لنا العطار امر اجتماع الطيور من جميع انواعها واصنافها كالهدهد، والببغاء، والحُجلة، والصقر، ويبدأ سرد قصة هذا الاجتماع بالترحيب بهذه الطيور قائلا: (مرحباً بك ايها الهدهد، يام من انت للطريق هادٍ، ومرشد للحقيقة في كل واد، يا من ذاع صيتك الحسن الى حدود سبأ، ويا من مع سلمان حسن منطقك، فصرت صاحب اسرار سليمان، وصرت في تفاخرك من اصحاب التيجان...).
ثم يتلقى طائر الببغاء الترحيب على هه الشاكلة: (مرحباً بك ايتها الببغاء الواقفة على طوبى، وانت ترتدين حُلّة انيقة وطوقاً نارياً، اما طوق النار فمن اجل ساكني جهنم، واما الحُلّة فمن اجل ساكني الجنة، ومن يشبه ابراهيم الخليل في نجاته من النمرود، فانه يستطيع الجلوس في مسرة على النار...).
ويستمر العطار في سرد حكاية هذا الاجتماع، وترحيب طائر السيمرغ بالطيور الواحد تلو الاخر حتى يكشف لنا عن الهدف الذي توخته الطيور من هذا الاجتماع وهو اختيار زعيم من بينها يدلها على الطريق الى الله جل وعلا فيقول في هذا المجال: (اجتمعت طيور الدنيا جميعها ما كان منها معروفاً، وما هو غير معروف، وقالوا جميعاً: في هذا العصر لا تخلو مدينة قط من سلطان، فكيف يخلو اقليمنا من ملك؟ وانّى لنا ان نقطع طريقنا اكثر من هذا بلا ملك؟ ربما لو ساعد بعضنا البعض لتمكنا من السعي في طلب ملك لنا...).
وهنا يجيء الجواب من الهدهد مشيراً على الطيور ان تفد على طائر السيمرغ لتستشيره في هذا المجال: (ايتها الطيور! انني بلا ادنى ريب مريد الحضرة، ورسول الغيب، جئت مزوداً من الحضرة بالمعرفة، جئت وقد فُطِرْتُ على ان اكون صاحب اسرار، ومن نقش اسم الله على منقاره ليس ببعيد ان يدرك المزيد من الاسرار...).
ويمضي الهدهد في الحديث عن نفسه، وتجاربه، وما خصّه الله به من دون الطيور من علم ومعرفة حتى يشير على الطيور الاخرى بالذهاب الى طائر السيمرغ قائلا: (انثروا الارواح، وسيروا في الطريق، فلنا ملك للا ريب يقيم خلف جبل يقال له جبل (قاف)، اسمه السيمرغ ملك الطيور، وهو منّا قريب، ونحن منه جدّ بعيدون، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع... ولاننا حيارى امامه فسنسلك الطريق متعثرين فان ادركنا منه علامة فهذا هو العمل، والا فبدونهم تعتبر الحياة عاراً، ومليئة بالخلل...).
مستمعينا الاكارم!حتى نلتقيكم عند حلقة اخرى من برنامجكم (عبارات واشارات).. نستودعكم الرعاية الالهية.. والى الملتقى.
*******