احبتنا المستمعين الافاضل! على دروب التراث الاسلامي الايراني الفواحة بعطر المعرفة، وشذى الادب، وعبير العرفان.
نلتقيكم مجدداً آملين ان تقضوا معنا لحظات حافلة بالمتعة، والفائدة، عند فصول اخر من السفر العرفاني والاخلاقي الخالد (منطق الطير).
مستمعينا الاكارم! ومن بين الموضوعات الاخرى التي اطال العطار الحديث عنها في منطق الطير العشق الالهيّ اذ ان العشق هو القوّة الخفية التي تدفع السالك الى المضيّ قدماً في الطريق رغبة في لقاء المحبوب الازليّ.
وقد اعتبر العطار وغيره من العرفاء والمتصوفة العشق اسمى مكانة من العقل، ذلك لان العقل قاصر امام العشق.
وقد اشار فريد الدين العطار الى ذلك كثيراً فمن اقواله في هذا المجال: (العشق نارٌ اما العقل فدخان، وما ان اقبل العشق حتى ولّى العقل مسرعاً، والعقل ليس من شأنه العشق كما ان العشق ليس وليد العقل، واذا نظرت الى الامور بعين العقل فسترى العشق بلا بداية ولا نهاية...).
والعشق - كما يقول العرفاء- نوعان، عشق دائم وهو عشق المعرفة، وعشق زائل وهو عشق الصورة الذي يزول بزوال الصورة، وعشق المعرفة هو عشق الله، ذلك الحبيب الابدي الدائم، اما عشق الصورة فهو عشق الماديات الفانية البالية.
وقد تكلم العطار كثيرا في كتابه (منطق الطير) عن عشق الصورة عدم جدواه، وضرورة البحث عن حبيب لا يفنى ولا يزوال، فهو يقول في المقالة الخامسة والعشرين: (ان عشق الصورة ليس هو عشق المعرفة، بل هو اتباع الشهوات، وان الجمال الذي قاله النقصان يكون في عشقه للانسان كل الخسران، ومن يعشق عالم الغيب فقد تجسد فيه العشق الحق الذي يخلو من كل عيب...).
وفي هذا الاطار نرى الهدهد يردّ في المقالة الثالثة على البلبل وهو يتباهى بعشق الوردة، فيقول له: (يا من تعلقت بالصورة، لاتتباه اكثر من ذلك بعشق الجميل، نعشق شيء مآله الزوال يصيب العاقلين بالضجر والملل...).
كما ان العاشق الحق هو الذي يعشق شيئاً ثابتاً لايتلوّن ولا يتغير، وعلى سبيل المثال فان الهدهد يرد في المقالة السابعة على الحجلة وهي تتيه غروراً بتعلقها بالجواهر، ويخبرها بان تعلقها بالجواهر لا اساس له من الصحة لان الجوهر ما هو الاّ حجر اصطبغ بالعديد من الالوان).
واذا زالت عنه الالوان عاد حجراً عديم القيمة، ثم يدلل على صدق قوله بقصة سيدنا سليمان عليه السلام وفصّ خاتمه، وكيف انه فضّل الحياة الآخرة على الدنيا ونعيمها في حين انه كان بامكانه اخضاع العالم لسلطانه بفص خاتمه هذا.
اعزتنا المستمعين: وطريق العرفان هذا ليس طريقاً بالمعنى المفهوم لدى عامة الناس، بل هو طريقة للمجاهدة ووسيلة لضبط النفس، ولكنه يشبه الطريق الارضي في كونه يتكون من مراحل تختلف بين السهولة والوعورة، وهو شبيه بطريق بين جبلين تكثر فيه النتوءات والصعوبات لايسلكه المسافر الاّ بشق الانفس، وليس في مقدور كل مسافر ان يسلكه.
فالبعض يخشى مخاطر الطريق فيكفّ عن السفر، والبعض يقطع بعض اوديته ولكن سرعان ما يهلك في الطريق، والقلة هم الذين يستطيعون الخوض في هذا الطريق، والوصول الى غايته.
وغاية طريق العرفان هي ادراك الله سبحانه وتعالى، ولكن ما هي وسيلتهم الى هذا الادراك، وهل يدركونه بالعقل؟، هيهات، هيهات للعقل ان يقوى على ادراك الخالق جلّ وعلا، فالعقل عاجز عن ادراك سر المخلوقات فكيف به يجرؤ على معرفة الخالق؟!
ولقد افاض الشيخ فريد الدين العطار في بيان عجز العقل عن ادراك الحقائق الكونية، وعن ادراك الله سبحانه وتعالى، بل جعله قاصراً امام العشق الالهي.
ومن اقواله في قصور العقل قوله يناجي الباري جل وعلا: (وليس للعقل والروح طريق للطواف حولك، ولا يمكن لاي احد قط ادراك كُنْه صفتك...
واذا قُدّرَ للعقل ان يدرك اثراً من آثار وجودك، فلن يستطيع ان يسلك الطريق الى ادراك كُنْهِكَ...).
كما يوضح العطار ان الطريق الى الله نابع منه لا من العقل: (اعْرِفْ نفسك بالله ولكن لن تَعْرِفَه بنفسك، فالطريق اليه نابع منه لا من العقل...).
بل ان العطار يدعو السالك الى ان يُحْرقَ العقل لانه يقف عقبة في طريق السالك: (ايّ عملٍ هذا الذي تفعله؟! تقدّم كالرجال، واَحْرِق العقل، وكالمجنون تقدّمْ!...).
ويجعل العطار العقل عاجزاً امام ادراك سرّ الفناء، فهو يقول في المقالة الرابعة والاربعين في وصف وادي الفقر والفناء:
(ولكن اذا ما مضى رجل طاهر في البحر فانه يفنى فناءً حقيقياً ولن يبقى له اثر. وتُصبِحُ حركته هي حركة البحر، وما ان يفنى حتى يصل الى مجال الحُسْن، ويصبح غير موجود وهو موجود وعندما يتم ذلك فانه سيخرج عن نطاق تصور العقل...).
مستمعينا الاحبة! ومن جملة الموضوعات العرفانية الاخرى التي يطرحها الشيخ فريد الدين العطار في منظومته منطق الطير، موضوع الفناء العرفاني.
والفناء يعني لدى سالكي طريق العرفان هو الحال التي تتوارى فيها آثار الارادة، والشخصية، والشعور بالذات وكل ما سوى الحق.
فيصبح العارف وهو لا يرى في الوجود غير الحق، ولا يشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وارادته.
وليس المقصود بالفناء ذلك المعنى الشائع، وهو الفناء بالموت، بل المقصود ان يفنى العارف عن الاخلاق الذميمة، ويبقى في الاخلاق الجميدة، ويفنى عن صفاته من علم وقدرة وارادة ويبقى بصفات الله الذي له وحده العلم، والقدرة، والارادة، واخيراً يفنى عن نفسه وعن العالم حوله ويبقى بالله، بمعنى انه لايشهد في الوجود الاّ الله.
وحكمة الفناء تدور حول (الأنا)، لذا فمن واجب العارف ان لا يشعر بذاتيته، لان شعوره بالأنا او بالذاتية شعور بالاثْنَيْنيّة، والشعور بالاثنينية شرك، ولذلك فان النتيجة المطلوبة من الفناء هي رفع الاثنينية.
والملاحظ ان العطار يصف الوصول الى الفناء غير انه لايوضح طريق البقاء، فنحن نلاحظ في منظومة منطق الطير، ان الطيور بعد ان اصابها الفناء ادركت البقاء دون ان يبين لنا العطار كيف ادركته لان توضيح ذلك خارج عن نطاق الشرح، والتفسير، كما يشير الى ذلك قائلا:
(عندما انقضت اكثر من مائة الف من القرون، وكانت قروناً بلا زمان اذ لا بداية ولا نهاية، اسلمت الطير انفسها الى الفناء الكلّي بكل سرور، وما ان غاب الجميع عن رشدهم حتى ثابوا الى رشدهم، وتقدموا الى البقاء بعد الفناء، ولكن ليس لاحد قطّ سواء من المحدثين او القدماء ان يتحدث عن ذلك الفناء، وذلك البقاء اذ ان شرح ذلك بعيد عن الوصف والخبر، ففي طريق مثل طريق اصحابنا لا يمكن شرح البقاء بعد الفناء، وانّى يمكن اتمام ذلك؟!...).
ويربط العطار بين الفناء والذلة، وبين البقاء والسمو والشرف، وقد قصّ في هذا المجال قصة طويلة تؤيده هذه الفكرة، وهي تدور حول ذلك الملك الذي يأمر وزيره بقتل ولده الحبيب غير ان حصافة الوزير تقنع الملك بوخامة عاقبة تلك النوبة من الغضب التي تسيطر عليه.
والقصة هذه تصف في براعة حالة الشقاء الظاهري للنفس، والفناء الخلقي لدى انسان كان يحبّ شيئاً يكمن فيه جمال الحياة والشباب وقد حطّمه غير ان الحظ عاده اليه.
اعزتنا المستمعين! نكتفي بهذا القدر من التجوال في رحاب منظومة منطق الطير وما تحفل به من افكار، وعِبَر، وحكايات. على امل ان نكمل جولتنا هذه في حلقة الاسبوع المقبل باذن الله. نشكر لكم حسن المتابعة، والى الملتقى.
*******