مستمعينا الاحبة، سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته واهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الاسبوعي، عبارات واشارات، آملين ان تقضوا معنا دقائق حافلة بالفائدة والمتعة.
اعزتنا المستمعين، يُعدّ الشاعر، والعارف الايراني الكبير فريد الدين العطار احد ابرز الشعراء والعرفاء الايرانيين في القرن السادس الهجري.
وقد حاز فريد الدين العطار هذه المنزلة الكبيرة بفضل ما قدمه للمكتبة الاسلامية من مؤلفات مازالت حتى اليوم تحظى بعظيم التقدير من قبل جميع المهتمين بالعرفان والتصوف الاسلامي في العالم الاسلامي، ولدى جميع المستشرقين.
وقد عُرف فريد الدين العطار بمنظومته الخالدة (منطق الطير) التي تشهد له بابداعه في النظم، وتعدّ دليلاً كبيراً على توفق الايرانيين في نظم القصة الشعرية منذ قرون عديدة.
كما ان هذه المنظومة فوق كل ذلك تعتبر واحدة من شوامخ الفكر العرفاني الاسلامي، فلا غنى لاي مهتم بالعرفان والتصوف الاسلامي عنها.
ونتيجة لما حظيت به هذه المنظومة الفريدة في فكرها، وحبكة قصتها، فقد اقدم عدد كبير من المستشرقين على دراستها، وانقلها الى لغاتهم، فقد ترجمت الى اللغات الفرنسية، والانجليزية، والالمانية، وحظيت كذلك باهتمام مفكري الشرق فترجمت الى اللغتين، الهندية والتركية.
مستمعينا الافاضل، ان الغموض يكتنف سيرة العطار، ويلقي ظلالا على كل جانب من جوانب حياته، الا ان اسمه الاول هو باتفاق اغلب المؤرخين، وكتّاب المذكرات هو محمد.
واما لقبه فهو فريد الدين، وقد تخلص بهذا الاسم في اثنتين وثمانين غزلية من مجموع الغزليات التي وصلتنا من انتاجه والبالغ عددها اربعاً وخمسين وسبعمائة غزلية.
وكنيته - كما يقول معاصره سديد الدين العوفي صاحب كتاب جامع الحكايات.. ابو حامد.
ومع ذلك فاننا نجد فريد الدين كثيراً ما يذكر اسمه على انه العطار، فقد قال في منطق الطير في ختام المنظومة: (لقد نثرت ياعطار قارورة المسك المليئة بالاسرار على هذا العالم في كلّ آونة...).
وهذا الاسم الذي تخلص به فريد الدين كثيراً قد لصق به منذ كان يعمل صيدلياً ويمتلك دكاناً للعطار.
اما والده فاسمه ابراهيم، وكنيته ابو بكر، وكان يعمل عطاراً هو الآخر، وكان من مريدي الشيخ العارف قطب الدين حيدر في قرية كدكن، احدى قرى نيسابور.
وعلى الارجح فان والده عمر كثيراً ربما الى ان الّف العطار منظومته (اسرار نامه)، وقد كانت والدته على قيد الحياة يوم وفاة والده، كما يستفاد من (خسرو نامه) انها توفيت اثناء تأليف (اسرار نامه)، وانها كانت من اهل المعنى والعرفان، وقد بكاها العطار في خاتمة (خسرو وكل) قائلاً:
(... لم يكن لي انس الا بأمّي، وقد ذهبت، فكم شدّات ازري هذه الضعيفة التي كانت خليفة من مملكة الدين، لقد كانت ضعيفة كالعنكبوت، ولكنها كانت لي حصناً ودرعاً...).
وكانت والدته - كما يقول- رابعة الثانية، بل اتقى من رابعة، بقيت تسعة وعشرين عاماً تلبس حقير الثياب وخشنها، وكانت تقوم الليل دعاءً وبكاءً.
مستمعينا الاكارم، لاشك في ان منظومة (منطق الطير) هي من اروع ما نظم في الادب الفارسي عامة، وفي الادب العرفاني خاصة، فالقالب القصصي الممتع الذي ركبت فيه الى جانب المعاني الروحية والاخلاقية التي شملتها اعطتها هذه الاهمية بين كتب العرفان.
فلا يكاد يذكر اسم فريد الدين حتى يذكر بجانبه اسم (منطق الطير)، فقد اصبح فريد الدين علماً على (منطق الطير)، واصبح منطق الطير علماً على فريد الدين العطار.
ومنظومة (منطق الطير) تعرف احياناً باسم (مقامات الطيور)، ومن المرجح ان العطار اخذ اسم المنظومة من القرآن الكريم حيث يقول تعالى: (وورث سليمان داود وقال يا ايّها الناس عُلّمنا منطق الطير، واوتينا من كل شيء ان هذا لهو الفضل المبين) (النمل:16).
وجميع الطيور التي تحدث عنها العطار هي طيور حقيقية لها وجود في عالمنا الارضي، سوى (السيمرغ) فانه طائر وهمي لا وجود له في الكون مطلقاً، وقد قص لنا العطار قصته في اول (منطق الطير) ذاكراً انه ينتسب الى بلاد الصين.
ولكن كيف انطق العطار الطيور؟
لاشك في ان العطار افاد في هذا الصدد من قصة سيدنا سليمان عليه السلام وحديثه مع الطير.
وبذلك وجد العطار في القرآن الكريم مادة صالحة لمنظومته (منطق الطير)، كما انه افاد كذلك من الكتب السابقة التي انطقت الحيوانات عموماً، والطير خصوصاً ككتاب كليلة ودمنة.
وفي الحقيقة فان العطار انطق الطير بدلاً من الانسان، وجعلها تسعى جاهدة حتى تدرك الاتصال بالله تعالى.
وهذا ليس بغريب، فالله يذكر ان الطير تسبح له كما يسبح له الانسان كما يقول عز من قائل: «ألم تر ان الله يسبح له من في السماوات والارض، والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون» (النور، 41).
ولكن ترى كيف تمكن العطار من توليد الافكار العرفانية من خصائص الطيور؟
الوسيلة الى ذلك دون شك هي الوسيلة الغنية التي هي بمثابة عصا السحر في الشعر الفارسي، والعطار مبرز في هذا الفن لايشق له غبار، وان قدرته على استخدام هذه الطريقة تثير الدهشة في نفس القارئ.
فالعطار يسقط شعوره ومعتقداته على هذه الطيور على ان يخص كل طائر بما يوافقه من طباع وخصائص، وهي طريقة تعليمية ناجحة افضل بكثير من الطريقة النظرية التي يلقي فيها الشاعر او الكاتب بكل آرائه وافكاره في صورة كلمات جافة لا تنبض بالحياة.
في حين ان عرض هذه الافكار في صورة حوار مسرحي من شأنه ان يجذب انتباه القارئ، ويساعده على تتبع خيوط هذه المسرحية، ومعرفة دور كل ممثل او طائر يظهر على خشبة المسرح، والحكمة من ظهوره، والموعظة التي يمكن ان يخرج بها من وراء دور كل طائر.
اخوتنا المستمعين، تندرج منظومة منطق الطير تحت فن المثنوي، ويقصد به التزام القافية بين شطري البيت الواحد دون التزامها في آخر الابيات كلها.
وهذا الضرب فارسي النشأة لم تعرفه الاشعار العربية، وان كان بعض الشعراء الذين كانوا من اصل فارسي قد استخدموه في نظم الاشعار العربية المتأخرة التي عرفت باسم (المزدوج) منذ القرن الرابع الهجري.
وتشتمل هذه المنظومة على ما يقرب من 4650 بيتاً، وقد فرغ العطار من نظمها عام 583 هـ قائلاً في خاتمتها:
(لقد خُتم عليك منطق الطير، ومقامات الطيور كما ختم على الشمس بالنور، فهذه المقامات طريق كل حائر، كما انها ملاذ لكل مضطرب..).
ولك من لم يتنسّم قولاً من هذا الاسلوب، فما ادرك قيد شعرة من طريق العشاق.. واذا تيسر لك ان تقرأه مرة بعد اخرى، فمما لاشك فيه انه سيزداد حسناً في كل مرة لديك.
(لقد نثرت الدّر من بحر الحقيقة، كما ختم عليّ الكلام وهذا هو الدليل.. وان تلاشت هذه الافلاك التسعة من الوجود، فلن تضيع نقطة واحدة من هذه التذكرة...).
ولقد صدق العطار، فعلى الرغم من مرور اكثر من سبعمائة عام، فان (منطق الطير) له مكانته بين النفوس. ولم تؤثر فيه احداث الزمان، فظل باقياً يشهد بعبقرية صاحبه فريد الدين العطار.
هذا العبقرية، وذلك النبوغ سيتجليان لنا اكثر من خلال النصوص التي سنوردها لكم احبتنا المستمعين، في حلقات البرنامج القادمة.
من السفر الانساني الخالد منطق الطير او مقامات الطيور، فحتى ذلك الحين نستودعكم العلي القدير، شاكرين لكم حسن المتابعة، وتقبلوا تحيات اسرة البرنامج.
*******