اخوتنا المستمعين الاكارم، سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته، واهلاً ومرحباً بكم في لقاء جديد يجمعنا معكم عبر حلقة اخرى من حلقات برنامجكم الاسبوعي (عبارات واشارات)، حيث نجول معاً في جنبات حديقة الادب والفكر التي رعاها، وتعهد بسقايتها اعلام المعرفة في ايران الاسلام.
اعزتنا المستمعين، في مقدمة كتاب (الرحلة) يتحدث الشاعر والحكيم ناصر خسرو القبادياني عن الدافع الذي دفعه الى ان يبدأ برحلته طائفاً الامصار، ومتجوّلاً بين البلدان والحواضر.
وذلك بعد ان يشير الى عمله في مرو، والى الامير الذي كان يحكم خراسان في عصره قائلا:
(يقول ابو معين حميد الدين ناصر بن خسرو القبادياني المروزي - تجاوز الله عنه-: كنت امتهن الكتابة، ومن جملة المتصرفين في الاموال والاعمال السلطانية، فكنت منهمكاً في الاعمال الديوانية، وانشغلت بها لفترة حتى اشتهرت بين الاقران...).
ويفضل ناصر خسرو الحديث بعد ذلك عن الدافع الذي حدا به الى ان يترك العمل الحكومي، ويختار حياة التجوال والسفر، محدثاً بذلك انقلاباً كبيراً في حياته اخرجه من حياة الدّعة والاستقرار، الى حياة الغربة والاسفار.
هذا الدافع يتمثل - كما اشرنا في الحلقة السابقة- في رؤيا رآها الشاعر في منامه يحدثنا عنها قائلا بعد ان يشير الى اليوم الذي خرج فيه من مرو وهو –كما يعبر عن ذلك- يوم قران الرأس والمشتري طبقاً للحسابات الفلكية.
وقد قيل ان من طلب حاجة في ذلك اليوم فان الباري تعالى وتقدّس يقضيها له، فانتحيت جانباً، وصليت ركعتين، وطلبت من الله ان يرزقني الثروة والمال، وعندما حللت على اصحابي كان احدهم ينشد شعراً بالفارسية، فخطر على بالي شعر اردت ان اطلب منه انشاده لي، فكتبته على ورق وقدمته اليه ليقرأه، فما كدت اعطيه اليه حتى بدأ بانشاد هذا الشعر بعينه، فتفألت بذلك خيراً، وقلت لنفسي: لقد قضى الله تبارك وتعالى حاجتي، فذهبت من هناك الى جوزجانان ومكثت فيها ما يقرب من شهر قاضياً اوقاتي باللهو، واللعب، والعبث.
ويبدأ ناصر خسرو بعد ذلك حديثه عن الرؤيا الغريبة التي رآها والتي كانت السبب في ان يعود الى رشده بعد ان كان طيش الشباب قد استولى عليه، فاذا به يعود الى وعيه، ويسلك سبيل الجدّ، فتنقلب بذلك حياته، ويختار حياة الاسفار والتقرب.
يقول ناصر خسرو مؤرخاً لهذه الفترة من حياته، ومسلطاً الضوء على هذه الحياة الجديدة التي ارتضاها لنفسه:
قال النبي صلى الله عليه وآله: قولوا الحق ولو على انفسكم.
رأيت ذات ليلة في المنام شخصاً يقول لي: حتى متى تبقى متبعاً الهوى، ملازماً للهو والعبث، الافضل لك ان تنشغل بما يهمك فقلت: هذا هو السبيل الوحيد للحكماء لكي يخففوا عن عنائهم في الدنيا.
فأجاب: الراحة لاتكمن في انعدام الوعي، فليس من اللائق بالانسان الحكيم ان يُرشد الناس الى اللهو، بل يجب عليه ان يطلب شيئاً يزيد من العقل والوعي، فقلت: ومن اين لي بذلك؟
فقال: مَنْ جدّ وَجَدَ ثم اشار الى القبلة، ولم ينطق بشيء بعد ذلك....
(... وعندما استيقظت من النوم، كانت الرؤيا متجسدة امامي وتمارس التأثير عليّ، فقلت لنفسي: لقد استيقظت من نوم البارحة، وعليّ ان اسيتقظ ايضاً من رقدة اربعين سنة، ففكرت وأُلقي في رَوْعي انني لااستطيع ان اجد الفرج حتى اراجع كل افعالي واعمالي، و في يوم الخميس السادس من جمادي الاخرة سنة سبع وثلاثين واربعمائة، اغتسلت ثم توجهت الى المسجد الجامع، وصليت وطلبت من الباري تبارك وتعالى ان يعينني على اداء ما هو واجب عليّ، واجتناب ارتكاب المنهيات والمحرمات كما امر الله...).
وهكذا يبدأ ناصر خسرو رحلته مفتتحاً اياها بزيارة بيت الله الحرام، تعبيراً منه عن ذلك الانقلاب الكبير الذي حدث في ذاته فجعلها تحث السير باتجاه الطريق الالهي، طريق التزكية، والتطهّر، وكسب الحكمة اينما وُجِدَت، والتزود من العلم والمعرفة من خلال الترحال، والتنقل بين البلدان، والتعرف على حياة الامم والشعوب المختلفة، واكتساب المواعظ والعبر من حياتها.
يقول الشاعر والحكيم ناصر خسرو عن بداية رحلته هذه، واستعداده لها، وكيف انه عاد الى مرو لكي يستقيل من وظيفته:
(... فذهبت من هناك الى شبورغان، ومكثت ليلتي في قرية بارياب ثم سرت من هناك في طريق سَمَنْجان، وطالقان متوجهاً الى مَرْواْلمُرود، وعندما وصلت الى مرو طلبت من يقيلوني من العمل الديواني بسبب عزمي على زيارة القبلة، وعلى اثر ذلك تركت كل ما في الدنيا الا ما كان ضرورياً، وفي الثالث والعشرين من شهر شعبان شددت رحالي باتجاه نيسابور...).
ويستمر ناصر خسرو في رحلته هذه محدثاً ايانا في كتابه عن الاحداث التي واجهها، والمشاهد التي رآها، والملوك والحكام الذي كانوا يحكمون المدن والبلدان التي كان يمرّ بها بما يشكل معلومات تاريخية قيمة تنفع الباحثين المهتمين بدراسة اوضاع العالم الاسلامي آنذاك.
ومن جملة الاحداث التي يشير اليها ناصر خسرو زلزال حدث في مدينة تبريز آنذاك ادى الى مقتل الكثير من الناس، وهدم اجزاء كبيرة من المدينة.
يقول ناصر خسرو مشيراً الى هذه الحادثة: (وصلت تبريز في العشرين من صفر سنة ثمان وثلاثين واربعمائة، وهي قصبة من قصبات اذربيجان، وهي مدينة عامرة جُلْتُها طولاً وعرضاً... وقد قيل لي ان زلزالاً حدث في هذه المدينة سنة اربع وثلاثين واربعمائة في الايام المسترقة بعد صلاة العشاء فتهدم على اثر ذلك قسم من المدينة، وهلك من اهلا اربعون الفاً...).
ثم يحدثنا ناصرخسرو بعد ذلك عن احد الشعراء العرب الذي لقيهم في تبريز وهو قطران الشاعر، وعن احد المواقف التي جمعته معه، مقدماً بذلك لنا احدى المعلومات الادبية القيمة حول هذا الشاعر، وكيف ان الكثير من الشعراء العرب كانوا يقيمون في بلاد ايران، وكانوا يبدون رغبة في تعلّم اللغة والادب الفارسي.
يقول الشاعر والاديب ناصر خسرو في هذا المجال: (وفي تبريز رأيت الشاعر قطران، وكان يُنْشِد اشعاراً حسنة الا انه لم يكن يجيد اللغة الفارسية، فكان يأتي اليّ ومعه ديوان (منجيك)، وديوان (دقيقي)، ويقرؤهما عندي، ويسألني عن المعاني التي كانت تشكل عليه، فكنت اشرحها له، فكان يدوّن هذا الشعر، ويقرأ عليّ اشعاره...).
وعندما يصل ناصر خسرو في رحلته الى الشام يتوقف عندها طويلاً ليحدثنا عن عجائبها، وغرائبها، ومدنها، وامصارها، ومحاصيلها، وبعض من الشخصيات التي رآها فيه.
ومن جملة ما يحدثنا عنه مدينة معرّة النعمان مسقط رأس فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة ابي العلاء المعرّي، فيقدم لنا عنها وعن شاعرها واديبها الكبير شرحاً يكاد يكون وافياً.
هذا الشرح سنستعرضه لكم اخوتنا المستمعين في حلقة الاسبوع المقبل باذن الله تعالى، فكونوا في انتظارنا آملين ان تكونوا قد قضيتم معنا في حلقة هذا الاسبوع دقائق ممتعة ومفيدة.
وان نقدم لكم في حلقة الاسبوع القادم ما هو اكثر متعة وفائدة، فالى الملتقى، وتقبلوا تحيات اسرة البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******