احبتنا المستمعين الافاضل، نرحب بكم اجمل ترحيب في لقاء جديد يجمعنا معكم عبر جولة اخرى في رحاب التراث الاسلامي الذي سطرته اقلام اعلام الفكر في ايران، وكلنا امل في ان تقضوا معنا اوقاتاً حافلة بالفائدة والمتعة عبر الدقائق المخصصة لهذا البرنامج (عبارات واشارات).
اخي المستمع، اختي المستمعة! ناصر بن الحارث القبادياني، المعروف بـ (ناصر خسرو) هو احد الشعراء، والكتّاب، والرحّالة، والحكماء الذين انجبتهم ارض ايران الاسلام، واغنوا الحضارة الاسلامية بل الحضارة الانسانية كلها بتراثهم الرائع في جميع مجالات المعرفة.
وُلِدَ هذا الشاعر، والاديب الحكيم سنة ثلاثمائة واربعة وتسعين من الهجرة الشريفة في قرية قباديان من توابع مدينة مروشاهجان.
في مطلع عمره تلقى هذا الشاعر الاديب العلوم الشائعة في زمانه، بعدها انشغل في خدمة الديوان الحكومي كاتباً.
الا ان حبّه للعلم، وشوقه العارم الى تحصيل المعرفة لم يدعاه يبقى فترة اطول في الديوان رغم الدخل الوافر الذي كان يدرّه عليه عمله الحكومي والاداري.
وهكذا اعتزل هذا العمل عندما بلغ الثالثة والاربعين من عمره، وكما يحدثنا هو نفسه في مقدمة رحلته التي ستكون موضوع حلقتنا لهذا الاسبوع، فانه رأى رؤياً غريبة ادت الى تغير احواله، وحدوث انقلاب كبير في حياته.
وعلى اثر ذلك شدّ رحال السفر الى الديار المقدسة متوجهاً من بلدته صوب مهبط الوحي، ومهد الرسالة، مكة المكرمة.
ففي الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة سبع وثلاثين واربعمائة للهجرة انطلق من مرو حيث كان يعمل في الديوان مولّياً وجهه شطر المسجد الحرام.
وفي خلال رحلته الطويلة هذه مرّ بنيسابور، وسمنان، والريّ، وقزوين، وآذربيجان، ومن مرند وخوي واصل رحلته مارّاً بمدن ارمينيا (فان، واخلاط، وبطليس).
ومن هناك توجه صوب الشام، وبيت المقدس، حيث مكث في هذه البلاد شهرين وبضعة ايام.
وفي النصف الاول من شهر ذي القعدة الحرام غذّ السير باتجاه ارض الحجاز لاداء فريضة الحج.
ومن هناك دفعه حب الاستطلاع الى ان يجوب الافاق، ويتنقل بين البلاد، والامصار، ليستمر في رحلته، وليدوّن –وهو الكاتب الاديب- مشاهداته عن تلك البلدان.
فشدّ الرحال من مكة المكرمة متوجهاً الى ارض العجائب، والغرائب والحضارات الموغلة في العراقة والقدم، ارض مصر، فوصل القاهرة في السابع من شهر صفر سنة تسع وثلاثين من القرن الخامس الهجري.
فأقام في مصر قرابة ثلاث سنوات حجّ خلالها بيت الله الحرام مرّة اخرى، وفي عام اربعمائة وواحد واربعين من الهجرة غادر مصر ليزور الديار المقدسة للمرّة الرابعة حيث مكث في مكة هذه ستة اشهر مجاوراً لبيت الله العتيق.
وبعد ادائه لفريضة الحج غادر ارض الحجاز وفي شهر شعبان سنة ثلاثة واربعين واربعمائة قفل عائداًالى وطنه ايران بعد ان مرّ بالطائف، وتهامة، واليمن، والبصرة حيث مكث في هذه الاخيرة شهرين.
ثم انطلق من هناك الى ارجان (فارس)، وليلقي عصا الترحال اخيراً في بلخ بعد ان عرّج على اصفهان، ونائين، وقائن، وتون، وسرخس. وذلك سنة اربع واربعين واربعمائة للهجرة.
وفي خلال هذه الرحلة التي استغرقت زهاء سبع سنوات، واجه ناصر خسرو الكثير من الاحداث والمصائب، ورأى بأم عينه طرائف وغرائب مختلفة.
الا ان الحادثة الكبرى التي تركت ابلغ الآثار، واعمقها في حاية شاعرنا واديبنا ناصر خسرو انه تأثر كثيرا بشخصية الخليفة الفاطميّ في مصر، حيث ادى به هذا التأثر الى ان يعتنق المذهب الاسماعيلي، ويتولى الدعوة الى هذا المذهب.
وعند عودته الى بلخ بدأ يدعو الى المذهب الاسماعيلي بشكل علني، ويناقش ويناظر فيه العلماء والفقهاء في عصره.
وبطبيعة الحال فقد واجه ناصر خسرو احتجاجات واعتراضات المتعصبين، فعزم الامراء السلجوقيون على ايذائه، واضطهاده حتى ضاق ذرعاً بذلك، وذاق منهم الامرّين.
فاضطر الى ان يتخفى، ويتنقل من مدينة الى اخرى مواجهاً خلال ذلك الكثير من المصاعب، والآلام، حتى استقر به المقام اخيراً في قلعة يمغان بالقرب من مدينة بدخشان، حيث اعتزل فيها الناس، حتى توفي سنة اربعمائة وواحد وثمانين من الهجرة.
وفي خلال فترة عزلته هذه انهمك ناصر خسرو في نظم الشعر، والتأليف، والتصنيف.
ويتضمن ديوان شعره قصائد غرّاء اوردها بعد ان استهل ديوانه هذا بمقدمة وصف من خلالها الطبيعة، وبسّط الحديث حول العقائد الدينية، والفلسفية، وسعى من اجل اثبات المبادئ الاخلاقية والاسس الفلسفية عبر استدلالات منطقية متينة للغاية.
ومن آثاره الاخرى كتاب (زاد المسافرين) و(وجه الدين) و(خوان الاخوان)، واشعار مثنوية معروفة نظمها في رسالتين (روشنائي نامه) اي رسالة النور و(سعادت نامه) اي رسالة السعادة.
ومن بين اعمال ناصرخسرو يلتمع في مجال النثر كتاب رحلته الذي دوّن، وسجّل فيه مشاهداته، وملاحظاته التي واجهها خلال سبع سنوات متصلة قضاها في الترحّل والتجوال.
وتكمن اهمية هذا الكتاب في قيمته الادبية، والعلمية، والتاريخية، والجغرافية، ففيه نستمتع باسلوب ناصر خسرو النثري المرصع بالصناعات الادبية، والبلاغية.
ومن خلاله نطلع على المصطلحات العلمية والفلسفية التي كانت رائجة في العصر الذي عاش فيه ناصر خسرو.
وبين سطوره تتجلى لنا الاوضاع الاجتماعية، والجغرافية، والحضارية للبلدان والمدن الاسلامية آنذاك.
وللاهمية التي يتمتع بها هذا الكتاب فقد طبع ثلاث مرات في ايران، ومرة في اوروبا ذلك لانه يعتبر من الآثار النفيسة للنثر الفارسي في القرن الخامس الهجري.
ويبدو ان ناصرخسرو دوّن هذا الكتاب بعد عودته من رحلته، ليخرجه اثراً نفيساً حافلاً بالحلاوة والطلاوة، مفعماً بالفصاحة والبلاغة، والبيان الشامل المثقل بالملاحظات والمشاهدات الدقيقة حول اوضاع المدن، والابنية، والآثار المهمة في ارجاء العالم الاسلامي.
كما يضم هذا الكتاب بين دفتيه تفصيل الحديث حول الطبيعة الجغرافية، والزراعية لكل بلد كان يمرّ به، بالاضافة الى اوضاعه الاخلاقية، وعاداته وتقاليده الاجتماعية وما الى ذلك من مشاهدات سطرها شاعرنا، واديبنا القدير خلال رحلته بفضل دقة ملاحظاته، وحبّه للاستطلاع.
احبتنا المستمعين، بعد ان تحدثنا فيما مضى من دقائق عن حياة الشاعر والاديب والحكيم ناصر خسرو القبادياني، وعن عمله الادبي والتاريخي الخالد المتمثل في رحلته، نوكل استعراض بعض النماذج من هذا الكتاب النفيس باعتباره احدى روائع التراث الايراني، الى حلقة الاسبوع المقبل باذن الله.
فحتى ذلك الحين، نستودعكم الرعاية الالهية، شاكرين لكم حسن الاصغاء والمتابعة، وآملين ان تكون قد جمعتكم معنا دقائق حافلة بكل ما هو ممتع ومفيد، من تراثنا الاسلامي الخالد الذي يرمي برنامجها (عبارات واشارات) الى استعراضه، وتقديم خلاصة عنه. فكونوا في انتظارنا، وتقبلوا تحيات اسرة البرنامج.
*******