احبتنا المستمعين الافاضل، اجمل المنى، واطيب التحايا نبعثها لكم ونحن نلتقيكم عند حلقة اخرى من حلقات برنامجكم الاسبوعي (عبارات واشارات)، حيث التراث الادبي، والاخلاقي، والمعرفي الاصيل الذي سطرته اقلام الادباء، والمفكرين، والعلماء، والفلاسفة المسلمين في ايران.
فأهلاً ومرحباً بكم راجين ان تقضوا معنا اوقاتاً طيبة ومفيدة.
مستمعينا الاكارم، (جوامع الحكايات ولوامع الروايات) للاديب والمؤرخ الايراني محمد ابن محمد العوفي الملقب بـ (سديد الدين)، يمثل احد اهم النتاجات والمؤلفات القصصية التي جادت بها قرائح الايرانيين في القرن السابع الهجري، وهو من جملة الكتب التي تعدّ من المراجع المهمة والمفيدة التي كثيراً ما يستند اليها العلماء والكتّاب والمتأخرون علماً انه قد كُتِبَ باللغة الفارسية.. فلقد ضمّ هذا الكتاب بين دفيته غالبية المعارف والعلوم الاسلامية التي كانت قد دوّنت في الكتب بالعربية او الفارسية حتى عصر المؤلف..
فهو بذلك يعتبر وثيقة مهمة لتاريخ الحضارة، والادب، والعلوم في العالم الاسلامي، والتي استقاها الكاتب من كتب السّير، والاخبار، والتواريخ، متبعاً في ذلك الى حدّ بعيد الطريقة التي حذاها المؤرخون المسلمون الاخرون مثل صاحب (الاغاني) و(العقد الفريد) و(تاريخ الامم والملوك).
ولاشك في ان هذا الكتاب - بالاضافة الى قيمته التاريخية- يضم الكثير من المواعظ والارشادات الاخلاقية، والمعلومات الاجتماعية والدينية وما الى ذلك، فهو يمتلك قيمة اخلاقية وتربوية ايضاً.
ففي باب الاخلاق نقرأ قصصاً معبرة تليّن القلوب، وتدعو الانسان الى الاعتبار والاتعاظ، وتحمله على التفكر والتأمّل في حياته، وعاقبته، لتدفعه الى ان يقوّم سلوكه، ويطهر نفسه من العيوب والاخطاء.
وفي باب السلوك الاجتماعي، يسرد لنا العوفي - كما سنرى ذلك- باسلوبه الادبي الشيق الكثير من القصص والحكايات حول تعدي الامراء والحكام في عصره، وظلمهم للرعية، وحول احوال واخبار ارباب الشريعة والطريقة من الزهاد والعرفاء مما يعكس لنا جانباً من الطغيان الذي تبتلى طائفة من المجتمع، او الاخلاق الفاضلة التي تصدر من طائفة اخرى سواء كانت من طبقة الرعية ام الحكام.
وهناك قسم آخر في الكتاب خصصه المؤلف لسرد الاحداث التاريخية البحتة، ويشمل الوقائع التاريخية اعتباراً من بداية الخليقة وحتى العصر العباسي، وبالتحديد حتى حكم المستنصر سنة (623) للهجرة، ولذلك فانه يعتبر احد المصادر التاريخية المهمة، وخصوصاً فيما يتعلق باواخر العصر العباسي حيث تمزق العالم الاسلامي ليتحول الى دويلات وامارات يحكمها ملوك، وامراء مختلفون.
احبتنا المستمعين، مؤلف كتاب (جوامع الحكايات ولوامع الروايات) هو - كما قلنا- محمد بن محمد العوفي الملقب بـ (سديد الدين)، وقد ذكرته بعض الكتب التاريخية مثل: (تجارب السلف) و(نزهة القلوب) و(التاريخ المنتخب) و(كشف الظنون)، وقد اشارات الى كتابه هذا، والاهمية التي يتمتع بها.
وُلِدَ العوفي او سديد الدين في بخارى بين عامي 567 و572 للهجرة، وتوفي بين عامي 630 و640 للهجرة بعد عمر ربا على الستين، وبذلك فان تاريخ ولادته ووفاته غير معلوم بالتحديد رغم شهرة هذا المؤلف.
بعد ان اكمل دراسته في بخارى، كانت له جولة علمية في بعض بلدان العالم الاسلامي، فقد زار غالبية مدن ما وراء النهر، وخراسان، والهند مثل، سمرقند، وخوارزم، ومرو، ونيسابور، وهرات، وسيستان، وغزنة، ودهلي.
وفي خلال اسفاره تلك كان العوفي يقيم مجالس وحلقات الوعظ والارشاد، ويغشى مجالس بعض من الملوك والامراء، ويدون ما كان يسمع من القصص والاخبار الطريفة او ما كان يرى من وقائع، ويقع له من احداث.
ومن جملة اولئك الامراء الامير ناصر الدين قباجه المتوفى عام 625هـ، حيث الف العوفي كتابه (جوامع الحكايات ولوامع الروايات) بأمر من هذا الامير، واهدى كتابه اليه.
اعزتنا المستمعين، والآن وبعد ان ذكرنا لحضراتكم مقدمة حول اهمية كتاب (جوامع الحكايات ولوامع الروايات) وقيمته، وخلاصة عن حياة مؤلفه، نبدأ بترجمة طائفة من القصص والحكايات التي ضمنها المؤلف كتابه مما يشتمل على الدروس والعبر، والمواعظ والارشادات، والاحداث التاريخية المهمة.
من بين الحكايات التي يسردها العوفي في كتابه حكاية تحت عنوان (اختلاف بين بائع ومشترٍ) يقول فيها:
(روي في احد كتب الهند ان رجلاً اشترى داراً من رجل آخر، ثم ان الرجل المشتري اراد ان يبني بناء في البيت فاذا به يعثر على كنز في احد جدرانه، فما كان منه الاّ ان اخذ هذا الكنز وحمله الى البائع وقال له: (لقد عثرت على مال في جدار البيت الذي اشتريته منك، ومن المعلوم انني اشتريت منك الدار لا الذهب).
فقال له البائع: (لقد وجدت البيت على تلك الحالة ولم يكن لي علم بالذهب، ولذلك لايمكنني ان آخذ الذهب منك، فانا لا أرى لنفسي حقاً فيه، فاتفق الاثنان من اجل ان يفضّا اختلافهما ان يترافعا الى الملك، ويعطياه المال، كي ينفقه في امور المملكة...).
(... فأخذا المال الى الملك، وشرحا له قضيتهما، فنهرهما قائلا: انتما لاتجيزان لانفسكما ان تتصرفا في الامانة في حين انكما من اواسط الناس، فكيف تتوقعان مني انا الملك الذي فوّضت اليه شؤون المملكة، وأُلقيت على عاتقه مسؤولية ادارة امور الرعية، ان اجرؤ على التصرف بها؟!
فقال الرجلان: انت الملك، وقد حدث لنا ما قد علمت، ونحن نطلب منك ان تحلّ لنا هذه المشكلة.
وفي هذه الاثناء كان ابن الملك حاضراً في المجلس يستمع، ويرى ما كان يجري بين الرجلين وابيه، فنهض من مجلسه بعد ان فكر قليلاً، وامر الرجلين ان يتصاهرا، وكان للبائع بينت، وللمشتري ابن، فزوجوا البنت من الابن، ووهباهما المال، وبذلك فضّ النزاع اخيراً، بفضل تدبير وفطنة ابن الملك....).
اخوتنا المستمعين، ومن بين القصص الاخرى التي يوردها العوفي في كتابه (جوامع الحكايات ولوامع الروايات) قصة طريقة اخرى يعكس من خلالها جانباً من الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في عصره...
هذه القصة جاءت تحت عنوان (تلاعب القصّابين بالاسعار، وتدبير حاكم سمرقند)، وهو يصور لنا من خلالها جشع طائفة من التجار، ومحاولتهم رفع اسعار البضاعة التي يتاجرون بها عبر محاولة دفع الرشوة الى حاكم المدينة، وشراء ذمته، والتواطؤ معه، كما يحدث غالباً بين الاغنيار والحكام...
الاّ ان هذا الحاكم وبفضل عدله، وحرصه على مصالح الرعية افشل هذه المحاولة كما يحدثنا العوفي بذلك قائلا:
(روي انه كانت في سمرقند جماعة من القصّابين ترافعوا عند حاكم المدينة وقالوا له: نحن نشتري الغنم، ونذبحه، ونبيع لحمه، الاّ اننا لا نحصل على ارباح كبيرة، فان اجاز الحاكم رفعنا سعر اللحم، ودفعنا في مقابل ذلك الف دينار الى خزانة الحكومة، فقال لهم الحاكم: يجب عليكم ان تدفعوا المال للخزانة، ولكم ان تبيعوا اللحم بالسعر الذي تريدونه، وعندما دفعوا المال الى الخزانة، ورفعوا اسعار اللحوم، بعث الحاكم مناديه ان ينادي في سوق المدينة قائلا: من اشترى من القصّابين لحماً، فانه سينال العقوبة بأمر الحاكم!...
فلم يشتر احد من الرعية اللحم من القصّابين، فكانوا يشتركون في شراء الاغنام ليقسموا لحومها بينهم، فتكدست اللحوم في دكاكين القصابين، وكادت ان تفسد، فاضطروا الى ان يدفعوا الى خزانة الدولة مبلغاً آخر من المال لكي يببعوا لحومهم بالسعر السابق، فلما رأى حاكم سمرقند ذلك منهم قال: ليس من العدل والانصاف ان ابيع رعيتي كلها بالف دينار).
ومن جملة القصص الاخرى التي كتبها العوفي في جوامع حكاياته والتي تجمع بين القيمتين الاخلاقية والتاريخية، قصة تتعلق بالعدل الذي عُرِفَ عنه احد ملوك الصين، علماً ان هذا النوع من القصص الذي نتعرف من خلاله على احوال وسير الملوك وما عرف عنهم من عدل وانصاف، او ظلم وطغيان كثير الورود ليس في كتاب العوفي فحسب بل وفي غالبية الكتب التي تشتمل على القصص، والحكايات والاخبار التاريخية.
مستمعينا الاكارم، تفاصيل هذه الحكاية سنتعرف عليها في حلقة الاسبوع المقبل باذن الله. والآن اسمحوا لنا ان نودعكم على امل اللقاء بكم مجدداً، مع حكايات اخرى نجول من خلالها في اروقة التاريخ، ورحاب المواعظ، والاخلاق، ومدرسة الحياة الحافلة بالدروس والعبر... فحتى ذلك الحين نستودعكم الله، والى الملتقى.
*******