اخوتنا المستمعين الافاضل، تحت عنوان (علاج حبّ الجاه والمقام) يتحدث ابو حامد الغزالي عن هذه الظاهرة السلوكية المتأصلة في الذات الانسانية «الاّ من رحم الله» بدافع من غريزة حب الانسان لذاته، وميله الى التملك، والاستحواذ.
وعلى عادة علماء الاخلاق، والمتخصصين في التربية يسلط الغزالي الضوء على معايب، واضرار تلك الظاهرة وآثارها السلبية على الصعيدين الفردي والاجتماعي لكي يكون ذلك دافعاً للانسان الى نبذها وتركها.
فيقرر الغزالي في هذا المجال ان السبب الرئيسي لهلاك الغالبية العظمى من الخلق تقاتلهم، وصراعهم، وجريهم المحموم وراء الحصول على الجاه، والمقام، والسلطة، فتكون النتيجة غلبة الجانب الشهواني والغريزي على النفس الانسانية، وابتعادها عن النهج الالهيّ.
ويدعم الغزالي تقريراته هذه بآيات قرآنية، واحاديث تلفت الانظار الى خطورة هذا المرض الاخلاقي، الذي من شأنه ان يكون باباً ومدخلاً لكثير من الآثام والخطايا، وسبباً للقضاء على ايمان الانسان، وتدينه، وارتباطه بالخالق تعالى.
وبعد ان يكشف ابو حامد الغزالي في كتابه (كيمياء السعادة) عن مساوئ، واضرار، ومعايب حبّ الجاه والسلطة، والسعي من اجل الحصول عليهما بشكل مبالغ فيه، يخصص موضوعاً مستقلاً لبيان طرق، واساليب معالجة هذه الآفة الخلُقية فيقول في هذا الصدد: (... اعلم ان حبّ الجاه عندما يتغلب على القلب فانه سيكون بمثابة مرض لهذا القلب، لانه سوف يجرّ الانسان الى امراض اخرى، كالرياء، والنفاق، والكذب، والتلبيس، والعداوة، والحسد، والمنافسة، وارتكاب المعاصي...).
ويقرر الغزالي ان هناك سبيلين لعلاج ظاهرة حب الجاه والمقام، احدهما يتمثل في ان يفكر، ويتأمّل الانسان المبتلى بهذه الآفة الاخلاقية بعواقبها، وآثارها السيئة على نفسه، وعلى مجتمع من قبيل الذل الذي سيبتلى به هذا الانسان في طريق سعيه المحموم من اجل كسب المقام والجاه، والعداوات والصراعات التي ستحصل بينه وبين الاخرين في هذا الطريق.
وفوق ذلك فان هناك اضراراً اخروية لابد ان تلحق بطالب الجاه والمقام ذلك لان التعلق بالدنيا، والغفلة عن الخالق سبحانه يؤديان بالانسان الى ارتكاب المحرّمات، وهذا ما سيؤدي بدوره الى ان يخسر الاخرة.
اما الاسلوب الآخر لاستئصال ظاهرة التعلق بالجاه والسلطة فهو الاسلوب العمليّ الذي يرى الغزالي انه يتمثل في طرق عديدة منها ان يهجر الانسان الوسط الذي نما وترعرع فيه حبّ الدنيا ومظاهرها في قلبه، وان يبدأ حياة جديدة في محيط آخر، ومنها ايضا ان يحاول عبر السلوك العملي المتواضع انتزاع الرياء والنفاق اللذين هما من لوازم المرض الاكبر المتمثل في حب الجاه والمقام اعاذنا الله منه.
مستمعينا الاكارم، ويعقد الغزالي في كتابه (كيمياء السعادة) الذي يعتبر كما قلنا خلاصة لكتابه الشهير (احياء علوم الدين)، ومن روائع التراث الذي كتبه العلماء الايرانيون في القرن الخامس الهجري، يعقد فصلاً آخر لبيان فضيلة (التفكّر) في مخلوقات الله سبحانه وتعالى فيقول في هذا المجال: (اعلم ان العمل الذي تعتبر ساعة من افضل من عبادة سنة بأكملها، لابد وان تكون درجته سامية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة"، وقال عز من قائل: «ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب» (آل عمران، 187)...).
وحول حقيقة التفكر، وماهيته، ومفهومه يقول الغزالي: (اعلم ان التفكر يعني طلب العلم، وان كل علم لايستطيع الانسان ان يعرفه بالبديهة عليه ان يطلبه، وهذا ما لايمكن الاّ اذا جمعت بين معرفة ومعرفة اخرى، والّفت بينهما لكي يتزاوجا تماماً كما تتزاوج الكائنات لتولّد كائنات اخرى، واذا ما لم يستطع المرء ان يكتسب العلوم من خلال هذا الطريق، فالسبب في ذلك يعود الى انه لم يبدأ من اصول واسس هذه العلوم، مثله في ذلك كمثل الشخص الذي يريد ان يعمل في التجارة دون ان يكون له رأسمال...).
ويخلص الغزالي من ذلك الى تقرير ان طلب العلم هو حقيقة جميع اشكال وانواع التفكر، وان طلب العلم يكون بواسطة احضار علمين في القلب، على ان يكون هذان العلمان متجانسين، ومؤديين الى النتيجة التي يبتغيها المتعلم، فكما ان العجل –على سبيل المثال- لايمكن ان يتولد من تزاوج حصان وفرس، فان العلمين الذين لاتوجد علاقة بينهما لايمكن ان يؤديا الى علم من نوعهما، فكل نوع من العلوم له اصلان، وما لم يحضر الانسان في قلبه هذين الاصلين فانه لايمكن ان يصل الى الفرع الذي يريده....
والتفكر كما يرى الغزالي هو السبيل الوحيد الذي يعرف الانسان من خلاله الطريق الذي ينبغي ان يسلكه، ومداخله في الحياة، والمصير الذي سينتهي اليه، فلقد خُلِقَ الانسان في الظلمة والجهل، وهو –والحال هذه- بحاجة الى ضياء يخرجه من هذا الظلام ليعرف طريقه، وما يجب عليه ان يفعله، والاتجاه الذي يتوجب عليه ان يسير وفقه، فهل يجب عليه ان يسير باتجاه الدنيا ام باتجاه الاخرة، وهل عليه ان ينشغل بنفسه ام بالحق؟.
كلّ ذلك يقول ابو حامد الغزالي لايمكن ان يتعين الاّ بنور المعرفة، ونور المعرفة بدوره يبزغ الاّ عبر التفكر...
ويضرب الغزالي مثالاً على ذلك في الانسان الذي يجد نفسه في الظلام ولا يستطيع ان يهتدي سبيلاً فما يكون منه الاّ ان يعمد الى ضرب حجر بآخر ليصنع بذلك ناراً تُجلى الظلمات من طريقه ليستطيع ان يمضي في سبيله متجهاً الى الهدف الذي يريده...
وهكذا فان مثل التفكر كمثل قدح الحجر بالحديد، ومثل المعرفة كمثل النور الذي ينبثق من ذلك الحجر، لينفذ في القلب، فتتغير حالته، ويتغير تبعاً لذلك عمل الانسان، فاذا توصل من خلال تفكره الى ان الاخرة افضل من الدنيا، فان هذه النتيجة التي توصل اليها بفضل التفكر ستدفعه الى ان يعرض عن الدنيا، ويُقبل على الاخرة.
حضرات المستمعين الافاضل، وفي الفصل الذي افرده الغزالي لبيان اهمية معرفة الانسان لنفسه يؤكد ان معرفة النفس هي مفتاح معرفة الله عزوجل، ولذلك قيل (من عرف نفسه فقد عرفه ربّه)، وقال تعالى: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق»... (فصلت، 53).
يقول الغزالي مقرراً الحقيقة السابقة: (لاشيء اقرب الى الانسان من نفسه، فان انت لم تعرف نفسك فكيف ستعرف الاخرين؟ ومعرفة النفس ليست بالادعاء، فاذا ما ادّعيت ذلك فانك في الحقيقة تكون قد اقررت بعجزك عن معرفتها. ومعرفة النفس الحقة انما تكون بمعرفة جوهرها، وكنهها، ومبدئها، ومنتهاها، والمصير الذي سيؤول اليه، فان المعرفة الظاهرية للنفس تشبه الى حدّ كبير معرفة الحيوانات لنفسها ذلك لان حدود معرفتها لاتتعدى اطراف، واوصال اجسامها، وكيفية اشباع غرائزها...).
وبناء على ذلك يقول الغزالي، فان على المرء ان يتحرّى معرفة حقيقة نفسه، ما هو كنهها وجوهرها، ومن اين جاءت، والى اين ستذهب، ولماذا قدمت الى هذا المنزل الدنيوي، ولماذا خُلِقَ الانسان، وما هي سعادته، واين تكمن، وما هو شقاؤه، ومن اين ينبع؟...
وفي موضع آخر من كتابه الاخلاقي (كيمياء السعادة) يفصّل الغزالي القول في القلب الذي يعني لدى الفلاسفة، والعرفاء، وعلماء القلب مركز المشاعر والعواطف والاحاسيس الانسانية او الروح، وقد يراد منه العقل ايضا، او مزيج العقل والعواطف.
وفي هذا المجال يرى الغزالي ان معرفة حقيقة (القلب) لايمكن ان يصل اليها الانسان الاّ حينما يعرف كينونته، وعلى هذا فان عليه اولاً ان يعرف حقيقته، وبعد ذلك يتعين عليه ان يعرف جنود قلبه، وعلاقته بهم، ثم صفاته، فان الانسان لايستطيع ان يعرف خالقه، ويحقق السعادة الاّ من خلال معرفته لحقيقة قلبه.
ويبدو ان الغزالي يريد من القلب هنا روح الانسان ذلك لانه يقول بعد ذلك: (ونحن نريد بهذا القلب حقيقة الروح، فاذا لم تكن هذه الروح فانّ الجسم سوف لايكون اكثر من جثّة هامدة، واذا ما تجاوز الانسان ببصره الحدود المادية المحسوسة، ونسي قالبه الجسمي، وغفل عن الارض والسماء وكل ما يمكن رؤيته بالعين، فانه سيكون قد عرف كينونته بالضرورة، واحاط علماً بنفسه، وان لم يحط علماً بالجسم، والارض والسماء وكل ما فيهما، وعندما يتأمل الانسان في ذلك حقّ التأمّل فانه سيدرك شيئاً من حقيقة الآخرة، وسيصل الى هذه الحقيقة وهي ان الجائز ان يسلب منه الجسد، ومع ذلك فانه سيبقى دون ان يعتريه الفناء...).
وبعد ان يبين الغزالي سبب احتياج الانسان الى الروح، ثم سبب احتياجه الى الجسد، وان الجسد هو بمثابة مملكة للقلب او الروح، يبسّط الحديث عن الاساليب والطرق الصحيحة التي يمكن ان خلالها للانسان ان يوظف، ويستخدم بشكل صحيح وضمن الحدود الشرعية غرائزه الجسدية من جهة والشهوة والغضب، والحواس، والعقلية والروحية من جهة اخرى كالتفكير، والادراك، والتخيل والوهم...
حديث الغزالي هذا سنعرض له في حلقة الاسبوع المقبل باذن الله، فكونوا في انتظارنا متمنين لكن اطيب الاوقات واجملها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******