السلام عليكم مستمعينا الأكارم ورحمة الله تحية طيبة ملؤها البركات من الله نهديها لكم في مطلع الحلقة التاسعة عشر من هذا البرنامج. حيث نتابع رحلتنا المعنوية مع ركب السبايا المحمديين وهم يساقون بعد واقعة كربلاء الدامية أسارى الى طاغية الشام يزيد عليه لعائن الله.
وفي هذا اللقاء نبقى مع الأسارى في دمشق وبعد الحديث عن إستشهاد السيدة رقية بنت الحسين – عليهما السلام – يحدثنا المؤرخون عن إستشهاد شهيدة أخرى من العيالات النبوية. وهي من أركان ركب السبايا وصناع ملاحمهم الخالدة، إنها البضعة المحمدية شقيقة زينب الكبرى، مولاتنا الشهيدة المظلومة أم كلثوم زينب الصغرى من بنات فاطمة الزهراء – عليهن السلام – .
أيها الإخوة والأخوات؛ نجد في المصادر التأريخية نصوصاً عدة يستفاد بأن مولاتنا أم كلثوم زينب الوسطى بنت أميرالمؤمنين أو زينب الصغرى من بنات الصديقة الزهراء – سلام الله عليهم أجمعين – قد توفيت في الشام قبل مغادرة ركب السبي المحمدي لها لدمشق في طريق عودته للمدينة المنورة، وبعد استشهاد عزيزة الحسين السيدة رقية فاطمة الصغرى – عليها السلام –.
أجل فعندما نراجع كتاب الكامل البهائي للمؤرخ الفقيه عماد الدين الطبري من أعلام القرن الهجري السابع، نجده يذكر خبر استشهادها بعد نقله لقصة إستشهاد السيدة رقية وضمن روايته لما جرى على العيالات النبوية في الشام، حيث قال في الجزء من تأريخه المذكور: وروي أن أم كلثوم أخت الإمام الحسين – عليه السلام – توفيت بدمشق – سلام الله عليها -
وهذا ما يؤكده المؤرخ والباحث الدمشقي عثمان بن أحمد السويدي الحوراني المتوفى سنة ۹۷۰ للهجرة في كتابه الإشارات الى أماكن الزيارات فقد إستخدم عبارة توفيت عقيب محنة الحسين التي تفيد قصر المدة، فقال ضمن حديثه عن مشهدها المبارك:..ومنها قرية يقال لها رواية بها السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب توفيت بغوطة دمشق عقيب محنة أخيها الحسين، ودفنت في هذه القرية، ثم سميت القرية باسمها وهي الآن معروفة بـقبر الست.
ويستفاد من بعض النصوص أن تأثرها لإستشهاد السيدة رقية كان أحد العوامل المهمة التي أدت الى إثخان جراحاتها السابقة منذ يوم عاشوراء وما بعده؛ ولذلك قال العلامة الحائري – رضوان الله عليه – في كتاب معالي السبطين عنها: وكانت – عليها السلام – أول من لحق بالحسين – عليه السلام – من الهاشميات والهاشميين بعد رقية التي توفيت بالشام كما أن أمها فاطمة الزهراء – عليها السلام – كانت أول من لحق برسول الله – صلى الله عليه وآله –.
وينقل العلامة المحقق السيد محمد تقي بحر العلوم في كتابه القيم مقتل الحسين عليه السلام حادثة معبرة عن شدة تأثر هذه السيدة لإستشهاد إبنة أخيها، قال – رضوان الله عليه - : وذكر بعض الأكابر أن أم كلثوم كان جزعها ونحيبها على تلك الطفلة أشد وأبلغ من باقي العيال، فما كانت تهدأ وتسكن طيلة تلك المدة قضوها في الشام.
۱: فقالت لها أختها العقيلة زينب الكبرى: يا أخيه، ما هذا الجزع والبكاء وكلنا أصبنا بفقد هذه الطفلة ولم يخصك المصاب وحدك؟ فقالت لها: يا أختاه، لا تلوميني، فقد كنت واقفة عشية أمس بعد العصر وجنبي رقية بباب الخربة في وقت إنصراف أطفال الشام الى بيوتهم وأهاليهم، فكان بعضهم يقف بباب الخربة يتفرج علينا ثم يذهب، فقالت لي: يا عمة، الى أين يذهب هؤلاء؟ قلت: الى منازلهم وأهاليهم، فقالت: يا عمة ونحن ليس لنا منزل ولا مأوى غير هذه الخبرة؟.. وأنا يا أختاه كلما ذكرت هذا الكلام لا تهدأ مني زفرة ولا تسكن لي عبرة.
مستمعينا الأفاضل، ولعل من أشد الحراب التي أصابت قلب هذه البضعة الفاطمية وسرعت إستشهادها هو موقف الطاغية يزيد بعد أن راى تزعزع عرشه لفضيحته بعد خطب السيدة زينب الكبرى والإمام السجاد ومواقف السيدة أم كلثوم واستشهاد السيدة رقية – سلام الله عليهم أجمعين – .
لقد سعى الطاغية الى تلميع صورته البشعة فصب أموالاً على انقطاع قبل تحرك الوكب للخروج من دمشق وقال: يا أم كلثوم، خذوا هذه الأموال عرض ما أصابكم.
وجاء في تتمة هذه الرواية التي نقلها العلامة المجلسي في البحار والسيد عبدالله شبر في كتاب جلاء العيون وغيرهما: فقالت أم كلثوم: يا يزيد، ما أقل حياؤك وأصلب وجهك، تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً، والله لا كان ذلك أبداً.
ولعل هذا السهم كان الأشد إيلاماً لهذه البضعة المحمدية المظلومة، فكان أن قضت نحبها سريعاً في قرية راوية التي كانت يومذاك تبعد بضعة كيلومترات عن دمشق على طريق القوافل المتجهة نحو العراق والحجاز.
على أن جراحاتها كثيرة بدأت قبل يوم عاشوراء فقد خرجت مع أخيها الحسين – عليه السلام – وهي تراه يترقب يخرج الى مصرعه إذ لا أمن له في مدينة جده – صلى الله عليه وآله – قال المؤرخ الدينوري من مؤرخي القرن الهجري الثالث في كتابه الأخبار الطوال:
فلما أمسوا وأظلم الليل، مضى الحسين – رضي الله عنه – نحو مكة ومعه أختاه: أم كلثوم وزينب وولد أخيه وإخوته.. وعامة من كان بالمدينة من أهل بيته إلا أخاه محمد بن الحنفية فإنه أقام.
ثم توالت عليها جراحات عاشوراء بكل آلامها وهي تتولى مع أختها العقيلة زينب الكبرى مهمة حفظ بقية العترة من سهام الأشقياء، روى الحافظ الخوارزمي في كتاب مقتل الحسين – عليه السلام – قال:
ثم التفت الحسين عن يمينه وشماله فلم ير أحداً من الرجال، فخرج علي زين العابدين وكان مريضاً لا يقدر على حمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني إرجع فقال: يا عمتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله، فقال الحسين: يا أم كلثوم خذيه ورديه، لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد.
ونزلت بها – عليها السلام – جراحات الهجوم الوحشي على خيام الطاهرين بعد مصرع عميدهم الحسين – صلوات الله عليه – وقد نص المؤرخون على شدة ما أصيبت به – عليها السلام – فقد روى ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح والحافظ الخوارزمي في مقتله والمؤرخ المحلي في الحدائق الوردية وغيرهم قالوا:
وأقبل القوم حتى أحدقوا بالخيمة، وأقبل الشمر – لعنه الله – حتى وقف قريباً من خيمة النساء، فقال: أدخلوا فأسلبوهن، فدخلوا فأخذوا كل ما كان في الخيمة حتى أفضوا الى قرط كان في أذن أم كلثوم – رضي الله عنها – أخت الحسين – فأخذوه وخرموا أذنها، حتى قطعت؛ وخرج القوم من الخيمة وأضرموها بالنار.
واستمرت هذه الرزايا تنزل بهذه البضعة المحمدية طوال مسيرة السبي مثخنة جراحاتها دون أن تمنعها من إيصال النداء الحسيني للعالمين.
عن بعض شواهد ذلك التي نقلها المؤرخون يحدثنا أخونا الحاج عباس باقري في الدقائق التالية:
باقري: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم أيها الأعزاء ورحمة الله وبركاته.
فيما يرتبط بمواقف السيدة مولاتنا البضعة الفاطمية أم كلثوم صلوات الله وسلامه عليها يلاحظ أنها دخلت السبي ورحلة السبي ومنازل السبي وهي مثخنة بجراحات متعددة منها قضية قطع أذنها وماجرى عليها عند الهجوم على خيام الامام الحسين سلام الله عليه بعد إستشهاده، جراحات ليست قليلة، جراحات شديدة. لعل رواية السيدة فاطمة الصغرى المروية في البحار للعلامة المجلسي والعوالم للشيخ البحراني صريحة واضحة، فاطمة الصغرى بعد أن سقطت وأغشي عليها ثم وجدت الى جانبها عمتها أم كلثوم فقالت كما أوردتها الرواية "ياعمتهاه خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظارة" فقالت "يابنتاه وعمتك مثلك" واذا برأسها عليها السلام مكشوف ومتنها قد إسود من الضرب يعني الجراحات ليست عادية. بهذه الجراحات سارت السيدة أم كلثوم مولاتنا سلام الله عليها في رحلة السبي وهي تشارك اختها العقيلة زينب في حفظ العيالات، هذه ايضاً المسؤولية ايضاً ليست باليسيرة، كانت تتلقى السياط لكي تحمي الأطفال المحمديين منها. بهذه الجراحات كانت تتخذ تلك المواقف التي تعبر عن أرقى وأسمى جماليات الصبر الجميل وفي أشد الرزايا وأشد الصعوبات. تلاحظون ما روي في كتاب المناقب للحافظ المازندراني إبن شهر آشوب الحلبي أن أم كلثوم قالت لحاجب إبن زياد "ويلك خذ هذه الألف درهم وإجعل رأس الحسين أمامنا وإجعلنا على الجمال وراء الناس ليشتغل الناس بنظرهم الى رأس الحسين عنا" طبعاً هذه الحادثة تكررت في دمشق ايضاً عند دخول السبايا الى دمشق كما روى ذلك السيد إبن طاووس وإبن نماء الحلي وغيرهم في مقاتلهم، كلها تعبر عن شدة الحرص على الحجاب والكرامة المحمدية لعيالات أهل البيت سلام الله عليهم. في تلك الأوضاع هو امر ليس باليسير، هذه الحادثة إشتملت على كرامة لأم كلثوم وهي أنه عندما اخرجه اللعين بعد ذلك وجدها قد تحولت الى حجارة إضافة الى ذلك كانت في تلك الظروف كانت لأم كلثوم سلام الله عليها خطبة عجيبة في الكوفة على قصرها "ويلكم اخذتم حسيناً" هذا إشعار وترسيخ روح الشعور بعظمة الأثم الذي إرتكبه هؤلاء الأشياع عندما خذلوا سيد الشهداء سلام الله عليه خوفاً من سلطان بني أمية، هذه الآثار كانت هي التي ولدت لما بعد ثورة التوابين، خطبتي السيدة زينب سلام الله عليها في الشام كان لها التأثير القوي في زعزعة حكم بني أمية وخطبة السيدة ام كلثوم شقيقتها في الكوفة كان لها عظيم الأثر في إيجاد أرضية ثورة التوابين التي انقذت الآلاف من العقاب الإلهي بسبب خذلان سيد الشهداء والخروج من دائرة اللعنة لمن خذل الحسين إبن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله. استمرت هذه المواقف على شدة الجراح لذلك لانرى عجباً أن تكون شهادة السيدة ام كلثوم في الشام بإعتبار أنها تميزت حتى عن السيدة زينب الكبرى سلام الله عليها بكثرة الجراحات التي أصيبت بها بدأ من الهجوم على المعسكر وطول المسير بسبب هذه المواقف التي كانت تعنف بقوة الأعداء وكان من الطبيعي أن تلقى ردود فعل عنيفة منهم ايضاً تزيد من جراحاتها صلوات الله عليها.
نشكر أخانا الحاج عباس باقري على هذه التوضيحات، ونشير هنا الى أن شدة الجراحات التي أصيبت بها هذه البضعة الفاطمية المظلومة تعد من الشواهد التي ترجح سرعة إستشهادها في الشام وترجح القول بأن ما ورد في المصادر المتأخرة من نسبة بعض الأشعار إليها عند العودة الى المدينة المنورة هو في الحقيقة لأختها العقيلة زينب الكبرى – عليها السلام – أو لبعض الفاطميات نسبت للسيدة أم كلثوم سهواً.
وبذلك يتعزز الرأي القائل بأن صاحبة المشهد الزينبي في الشام هي زينب الوسطى من بنات علي – عليه السلام – والملقبة بأم كلثوم بنت فاطمة وزينبتها الصغرى – عليهما السلام – كما تشهد لذلك تصريحات الكثيرين من العلماء والرحالة والمؤرخين، وهذا ما يعضده فقدان أي نص معتبر بشأن عودة العقيلة زينب – عليها السلام – الى الشام؛ نكتفي هنا بتصريح الرحالة ابن جبير في كتاب رحلته الشهير ومثله تصريح ابن بطوطة.
قال ابن جبير المتوفى سنة (٦۱٤ للهجرة): ومن مشاهد أهل البيت مشهد أم كلثوم بنت علي، ويقال لها زينب الصغرى [من بنات فاطمة] وأم كلثوم كنية أوقعها عليها النبي لشبهها بإبنته أم كلثوم، ومشهدها الكريم قبلي البلد يُعرف برواية على مقدار فرسخ وعليه مسجد كبير... مشينا إليه وبتنا به وتبركنا برؤيته.
قال أحد أدباء الولاء في مدح ورثاء مولاتنا شهيدة السبي أم كلثوم الفاطمية – عليها السلام -:
ولأم كلثوم العلى سجد البلا
وبها تعزّى ذاهلاً ولها العزا
وبكى لمحنتها الجليلة خاشعاً
لما رأى من صبرها ما قد رأى
صبر جميل في الرزايا حمدها
نور كمصباح الهدى قهر الدجى
هي أخت زينب والحسين شقيقها
وشقيقها صنو الحسين المجتبى
هي صنوة الحوراء بل هي زينب
نوران بل نور توحد في العلى
قد قاسمت أم المصائب حزنها
بفجائع حلت بأصحاب الكسا
ومصائب الأختين لا شبه لها
في الأرض جلت والأسى ملأ السما
فقد الرسول بسم أشقى عصبة
إبليس ناعقها بأضغان لظى
قد أحرقت بعد النبي لفاطم
باباً تقبلها الملائك وفدا
وبمحسن السقط المدمّى أفجعت
أختاه والزفرات نار في الحشا
وفجيعة الأم البتول وقد غدت
كخيال ثكلى زادها آه البكا
ورزية الطود الأشم وقد هوى
في ليلة القدر الخضيبة بالدما
ومصيبة الحسن الشقيق بقتله
كبد تقطع من أبيه المصطفى
ومصائب الطف الفظيعة يومها
ما مثله يوم فآه كربلا
حملت أمانتها وصوت شهيدها
أختاه والآلام تعصف بالسبا
أختاه أسمعتا نداء قيامه
سفر الفتوة والظليمة والإبا
هاذي بكوفان تفجر ثورة
للخاذلين بتوبة رشحت فدا
في الشام تلك تبيد عرش أمية
والوحي يبقى راغماً أنف العدى
هاذي كنانة مصر مشهدها وذي
في الشام نور أخت مصباح الهدى
فلزينب سجد البلا مستسلماً
ولأم كلثوم العلى سجد البلا
وبهذا نصل أيها الأكارم الى ختام الحلقة التاسعة عشر من برنامجكم (شهداء السبي).. إستمعتم لها مشكورين من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران..
شكراً لكم وفي أمان الله