السلام عليكم مستمعينا الأفاضل ورحمة الله...
تحية من الله مباركة طيبة نحييكم بها ونحن نلتقيكم في الحلقة الحادية عشرة من هذا البرنامج. وفيها نواصل متابعتنا المعنوية لرحلة ركب السبايا المحمديين – عليهم السلام – أسارى – الى طاغية الشام.
في هذه الحلقة نتحدث عن دخولهم بلدة بلط التأريخية شمال الموصل، وفيها قضى نحبه الشريف شهيد آخر من شهداء السبي أظهر الله كرامته عليه إنه الغلام الطالبي الغيور الأسير الشهيد علي الأصغر عمرو بن الحسين – عليهما السلام –
أيها الإخوة والأخوات، المستفاد من الوثائق التأريخية هو أن مشهد الأسير الشهيد علي الأصغر عمرو بن الحسين هو من أعرق مشاهد شهداء السبي ولعله أول مشهد بدأ المؤمنون بإعماره.
أجل، فقد جاء في الكتيبة المنصوبة على قبره الشريف أن تأريخ إعماره هو سنة ثلاث ومئة للهجرة، أي بعد إثنتين وأربعين سنة من واقعة الطف، كما وثق ذلك السائح الإسلامي الشهير أبو الحسن علي بن بكر الهروي في كتابه (الإشارات الى معرفة الزيارات)؛ وذكروا مشاهداته عند زيارته لهذا المشهد المقدس.
قال هذا الرحالة الذي زار المشهد في أواخر القرن الهجري السادس:
مدينة بلط، ويقال: بلد، بها عين يونس بن متّى، يقال إن الحوت ابتلعه بنينوى وبلطه هناك – أي أخرجه – وبها مقام عمرو بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وقرأت على الحجر الذي ظهر في هذا الموضع ما صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا مقام عمربن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو أسير في سنة إحدى وستين، تطوع بعمارته إبراهيم بن القاسم المدائني في صفر سنة ثلاث ومائة،وحبس عليه خان القطن من السوق العتيق ببلط
ومعنى (حبس عليه خان القطن) هو أن الباني قد أوقف عائدات خان القطن المذكور لتأمين ميزانية هذا المشهد؛ أما مدينة بلط فهي تقع شمال مدينة الموصل على دجلة، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان عنها:
بلد وربما قيل بلط.. وهي مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل بينهما سبعة فراسخ... وبها مشهد عمرو بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وهذه المدينة كانت من الحواضر الإسلامية المهمة يومذاك ولذلك إختارها الجناة كأحد المنازل التي طافوا بركب السبايا المحمديين فيها، للتشهير بهم – عليهم السلام – وإرعاباً لأهلها الذين كانوا من المحبين لأهل البيت المحمدي – عليهم السلام – والناقمين على الإفساد الأموي.
ويرجع سرعة البدء بإعمار هذا المشهد من مشاهد شهداء السبي الى أن مطلع القرن الهجري الثاني شهد فترة الإنفراج النسبي التي شهدها العلويون بعد تقليل الضغوط الإرهابية عنهم إثر وصول الخليفة الأموي عمربن عبد العزيز للحكم ومنعه سب أميرالمؤمنين الإمام علي – عليه السلام – على المنابر وتقربه الى الإمام الباقر – عليه السلام –.
ومثل هذه الظروف كانت موانية ومشجعة للتعبير عن أوضح مصاديق المودة لأهل البيت والإنتصار لمظلوميتهم – عليهم السلام – وهو مصداق إعمار مشاهدهم التي تعبر عن مظلوميتهم خاصة في المناطق ذات أغلبية من ذزي الميول الشيعية مثل مدينة بلط، ولذلك بادر المؤمنون لإعمار مشهد هذا الشهيد الأسير من ولد الحسين – عليه السلام –.
مستمعينا الأفاضل، نرجع الى نص الرحالة الهروي عن مشهد هذا الأسير الحسيني في مدينة بلط، فنراه يشير إلى كثرة الكرامات التي يظهرها الله فيه ويذكر واحدة منها شاهدها بنفسه.
وهذه الكرامة أجراها على يد وليه المرتضى الإمام علي – عليه السلام – وهذه الظاهرة ملحوظة في عدة من مشاهد شهداء السبي كما رأينا في مشاهد شهداء الموصل وسيأتي في الحلقة الخاصة بمشهد المحسن بن الحسين – عليهما السلام – في مدبنة حلب.
ولعل السر في إظهار هذه الكرامات على يد الوصي المرتضى بالخصوص يكمن في كونه – عليه السلام – رمز الإتباع الصادق للنبي الأكرم – صلى الله عليه وآله – فتكون في ذلك حجة بالغة على العباد للتمسك بولاية علي وولده المعصومين – عليهم السلام – والبراءة من أعدائهم من قتلة شهداء السبي وسائر أهل البيت النبوي الطاهر.
قال السائح أبوالحسن الهروي في كتاب الإشارات بعد ذكره لتأريخ إعمار مشهد الشهيد الحسيني الأسير في مدينة بلط:
وقد رأيت لهذا الموضع آية عظيمة، وذلك أنه كان بالموصل رجل فَقّاعي زَمِنٌ، أي فقير وذا عاهة مزمنة، يمشي على أعلاق من الخشب ويجر رجليه خلفه كأنهما خرق وبقي كذلك سنين عدة وزماناً طويلاً يشاهده الناس وهو معروف بالموصل، فرأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في منامه وذكر أنه قال له:
إمض الى مشهد ولدي عمروبن الحسين لأظهر فيك آية
فحملوه الى هذا الموضع، فاغتسل من الماء الذي به وزاره وعاد الى الموصل ماشياً على قدميه..
ورأيت لهذا الموضع غير هذا [يعني هذه الكرامة] بل اختصرت على ذكر هذه الفضيلة
أيها الإخوة والأخوات، في الدقائق التالية نستمع لأخينا الحاج عباس باقري وهو يحدثنا عن بعض جوانب الحكمة الإلهية من إظهار نظائر الكرامات في مشاهد شهداء السبي – عليهم السلام – نستمع معاً:
باقري: بسم الله الرحمن الرحيم سلام من الله عليكم أيها الأخوة والأخوات ورحمة منه وبركات. بالنسبة لقضية إظهار الله تبارك وتعالى الكرامات في مراقد شهداء السبي وفي مشاهدهم بل ومن قبورهم لكي يستدل بتلك الكرامات عليهم ويعرف الناس هويتهم ومنهم، كما ورد في قضية إكتشاف قبر الشهيد محسن بن الحسين ستأتي إن شاء الله في حلقات لاحقة من البرنامج، هذه الكرامات تعبر في واقعها عن احد المظاهر المهمة لنصرة الله تبارك وتعالى لهؤلاء الشهداء الذين نصروه بكل وجودهم وشكلوا الركن الثاني في ملحمة القيام الحسيني المقدس. هذا الأمر نشهده في جميع مراقد هؤلاء الشهداء الأبرار، لعلكم لاحظتم في الحلقة الخاصة بالسيدة الشريفة أم محمد بنت الامام المجتبى صلوات الله وسلامه عليه كثرة ظهور الكرامات في الشفاء، في قضاء الله تبارك وتعالى في حاجات المتوسلين بها، هذا الأمر يصدق ايضاً على حرم السيدة رقية سلام الله عليها، حرم السيدة خولة بنت الحسين سلام الله عليها في بعلبك، قبر الشهيد محسن بن الحسين في حلب وسائر شهداء السبي، اولاد مسلم سلام الله عليهم. هذه الكرامات التي ظهرت في هذه المراقد لاتعد ولاتحصى ومضمونها متواتر بلا شك ولايمكن إنكارها، كل هذه الكرامات يظهرها الله تبارك وتعالى نصرة لهؤلاء وبالتالي ترسيخ للقيام الحسيني المقدس، تربط هؤلاء بالناس كشهداء للسبي وبهم عليهم السلام كركن من أركان القيام الحسيني المقدس، هم أظهروا سلام الله عليهم الصلابة الحسينية، الإباء الحسيني في مسيرة السبي وتحمل جميع الصعاب في سبيل الله تبارك وتعالى. هذه الكرامات تظهر وترسخ من جهة القيام الحسيني المقدس في النفوس ومن جهة ثانية ترسخ روح البراءة من اعداء الله تبارك وتعالى الذين سعوا على مدى التاريخ إطفاء نوره المتمثل بالعترة النبوية المحمدية الطاهرة. عندما يظهر الله تبارك وتعالى هذه الكرامات يدل الناس على أن هؤلاء كرماء عنده تبارك وتعالى، أصحاب منزلة وكرامة عنده عزوجل وبالتالي يعرفون مظلوميتهم، يعرفون أن من قتلهم ومن ساقهم بتلك الطريقة الوحشية بعد واقعة عاشوراء الى طاغية الشام وإرتكب بحقهم أشكال الإيذاء التي لايمكن تصورها وتصور توجيهها لأي انسان فضلاً عن أن يكونوا من العترة المحمدية، من عترة أكرم الخلائق هؤلاء اذن هم أعداء الله تبارك وتعالى. اذن هؤلاء يسعون الى إطفاء النور المحمدي، هؤلاء يسعون الى إخفاء نور الله تبارك وتعالى وإبادة العترة المحمدية. اذن هذه الكرامات ترسخ من جهة مبادئ الولاية وقيم الموالاة لأولياء الله تبارك وتعالى أي النبي الأكرم وآله الطاهرين ومن جهة ثانية ترسخ روح البراءة من أعداء الله تبارك وتعالى وتعرف الناس بحقيقة أعداء الله ومن هم يسعون في هدم هذه المراقد ومحاربة هذه المراقد والذين سعوا من قبل في قتل هؤلاء هم أعداء الله.
نشكر أخانا الحاج عباس باقري على هذه التوضيحات ونتابع – أيها الأكارم – تقديم الحلقة الحادية عشر من برنامج (شهداء السبي) تستمعون لها مشكورين من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.
وننتقل بكم الآن أيها الأفاضل الى كتب التأريخ والأنساب لكي نتعرف منها الى هوية هذا الشهيد الأسير من شهداء السبي – صلوات الله عليهم أجمعين –.
فنجد في كتب التأريخ مثل الأخبار الطوال للدينوري وشرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي والفتوح لإبن أعثم الكوفي وغيرها ما يستفاد منه أنه قد أسر من ولد الحسين – عليه السلام – بعد مصرعه إبنه علي الأصغر وكان قد راهق أي بلغ أواخر العقد الأول من عمره الشريف، وفي بعضها كما في شرح الأخبار وغيره ورد تسميته بعمرو.
أما في كتب الأنساب وهي الأدق في ضبط الأسماء فقد وردت تسميته بعلي الأصغر الى جانب علي زين العابدين وعلي الأكبر وعبدالله الرضيع كما ورد في كتاب تأريخ أهل البيت – عليهم السلام – ودلائل الإمامة للطبري الإمامي وغيرهما.
وقد ورد في كتاب الكافي وغيره أن الإمام الحسين – صلوات الله عليه – كان يسمي جميع أبناءه باسم علي ويضاف لكل منهم قرينة تميزه عن الآخرين.
وبناءً على هذه الملاحظة يترجح القول بأن صاحب المرقد المبارك في مدينة بلط إسمه علي الأصغر وإسم (عمرو) الذي اشتهر به بين أهل المنطقة وذكره بعض المؤرخين به هو قرينة التمييز عن سائر إخوته – عليهم السلام –.
فهو – سلام الله عليه – علي الأصغر عمرو بن الحسين – عليه السلام – وقد حضر واقعة عاشوراء وهو ابن سبع سنين كما في بعض المصادر أو ابن عشر سنين كما جاء في مصادر أخرى.
وفي عمر الصبا قاسى سلام الله عليه مصائب كربلاء وشهد مصارع الكوكبة الأبرار من إخوته وبني عمومته وسائر الطالبيين لا سيما أبيه رحمة الله الواسعة الحسين – صلوات الله عليه –.
ثم نزلت وبسائر الأيتام والأرامل من عيالات الحسين – عليه وعليهم السلام – مصائب هجوم أشياع آل أبي سفيان على المخيم الحسيني، فأصيب بجراحات في هذا الهجوم الشرس أضيفت إليها جراحات سوق الأيتام والأرامل من العيالات النبوية بأعقاب الرماح حتى لحق بركب الشهداء شهيداً مظلوماً في هذا المنزل من منازل رحلة السبي الفجيعة.
وعرج إلى جده المصطفى – صلى الله عليه وآله – من دار غربة وكربة يشكو إليه ظلامته وما نزل بعترته مما لم ينزل مثله بعترة أحد من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
قال أحد أدباء الولاء في رثاء الشهيد الأسير علي الأصغر عمروبن الحسين – عليهما السلام –:
يا ابن الحسين إليك حجت أدمع
حمراء فاضت من صميم فؤادي
فاضت تزور الشبل في (بلط)، له
سالت دموع الآل فهي بوادي
وجرت عزاءً للنبي ورهطه
ولفاطم من أنبل الإسعاد
تروي فؤاداً لم يفارقه الظما
بعد الحسين فهو في استشهاد
تروي ثرى قبر الشهيد بغربة
قد ودعته أدمع السجاد
قد غادرته عنوة أم غدت
تذكي الجراح بحزنها الوقاد
ترثي شهيداً لم يزل في خطبه
من يوم عاشورا، حليف سهاد
يا برعماً أدماه سوط عصابة
أنست فساد ثمودها أوعاد
يا ابن الحسين وأنت في عمر الصبا
تسبى أسيراً مثقل الأصفاد
بدء الشهادة كان في طف البلا
فيه أصبت بغدرة الأوغاد
فتوسعت فيك الجراح ندية
وكزهرة سحقت بحقد بادي
حتى رحلت الى النبي وحاضناً
صدر الحسين وحيث خير مهاد
وبهذا نصل أيها الأكارم الى ختام الحلقة الحادية عشر من برنامجكم (شهداء السبي) قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران. نشكركم على كرم المتابعة ودمتم في أمان الله.