ورأى علي بن الحسين (ع) أهل الكوفة يضجّون ويبكون، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه، فأنشد قائلًا:
يا اُميّة السّوء لا سقياً لربعكُمُ يـا اُمّـة لَم تراع جـدّنا فينا
لَو أنّنا ورسـول الله يجمـــعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا
تسيّرونا على الأقتاب عارية كـأنّنا لـم نـشـيّد فيـكم ديـنا
وقام عليه السلام خطيبا في أهل الكوفة بعد خطبة عمته زينب عليها السلام، عندما رأى الناس يضجون بالبكاء والنحيب فأومأ اليهم أن اسكتو فسكتوا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبراً، وكفى بذلك فخراً.
أيها الناس، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والمواثيق والبيعة، وقاتلتموه فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي..."
فارتفعت أصوات الناس بالبكاء من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون؟
ثم قال عليه السَّلام: "رحم الله امرءً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وفي أهل بيته، فإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة".
فصمتوا وهم يستمعون إلى هذا القول ثم قالوا: نحن يا بن رسول الله، سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا.
فأجابهم عليه السلام:
"هيهات، هيهات، أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل، كلا ورب الراقصات، فإن الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولم ينس ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثكل أبي، وبني أبي إن وجده والله بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصص تجري في فراش صدري".