اذا دققنا النظر في الأحاديث التي طرحها الامام العسكري (عليه السلام)، لحظنا انها امتداد للأئمة السابقين في كونها تمثل غالبية النتاج المأثور عنه (عليه السلام) للأسباب التي كررنا الاشارة اليها... والمهم، أن الامام (عليه السلام) (وقد لحظنا مدى توفره على صياغة الصور في رسائله) قد توفر على صياغة العنصر الصوري بنحو ملحوظ في كثير من نماذج الأحاديث التي صدرت عنه (عليه السلام)... واليك طائفة منها:
«بسم الله الرحمن الرحيم: أقرب الى اسم الله الأعظم من سواد العين الى بياضها» (۳).
«من يزرع خيراً: يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة» (٤).
«الاشراك في الناس: أخفي من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة» (٥).
«من تعدي في طهوره: كان كناقضه» (٦).
«حب الأبرار للأبرار ثواب للأبرار، وحب الفجار للأبرار فضيلة للأبرار، وبغض الفجار للأبرار زين للأبرار، وبغض الأبرار للفجار خزي على الفجار» (۷).
«الغضب: مفتاح كل شر» (۸).
«بئس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين: يطري اخاه شاهداً ويأكله غائباً»(۹).
هذه الأحاديث وسواها، تحفل بصورة فنية مثيرة وطريفة كما هو واضح... كما انها متنوعة تتوزع بين التشبيهات والاستعارات والتمثيلات وسواها من الصور التي لحظنا نماذج منها في رسائل الامام (عليه السلام)...
ان ملاحظتنا للصور التشبيهية - على سبيل المثال- تكشف عن مدى اكتناز هذه النصوص بجمالية فائقة من حيث السياق الذي وردت التشبيهات من خلاله، فهناك اولاً: التنوع في هذه التشبيهات من حيث أشكالها مثل (تشبيه التفاوت) متمثلاً في قوله (عليه السلام): «أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة»... فالملاحظ في هذا التشبيه انه يقارن بين (اشراك الناس) وبين دبيب النمل (في لباس أسود) (في ليلة مظلمة)، فاللباس الأسود وحده كاف في جعل الاشراك معتماً من حيث لون النملة ولون اللباس، فاذا أضفنا الى ذلك الليلة المظلمة، نكون حينئذ امام ثلاثة الوان من الخفاء: النملة، اللباس، الليل،... فاذا أضفنا ايضاً عبارة التفاوت (أخفى) – أي أشد خفاء من هذه الألوان – حينئذ نظفر بصورة فنية مدهشة تتركب من أربع طبقات تصب جميعاً في ابراز مفهوم (الاشراك الخفي) بحيث تتناسب هذه الكثافة الصورية مع كثافة الاشراك الذي يدب بخفاء بالغ المدى... وحتى لو كان (التشبيه) غير مركب من أطراف متنوعة (التشبيه السابق الذي تركب من اربع ظواهر)، نجد أن التشبيه الآخر وهو قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم: أقرب من سواد العين الى بياضها» حيث تركب من ظاهرتين فحسب،... نجد أن هذه المسافة التقريبية التي يستهدف (التشبيه) توضيحها، اي: توضيح ان (بسم الله...) بالنسبة الى (الاسم الاعظم) أقرب من سواد العين الى بياضها،... نجدها مشحونة بنفس الكثافة التي لحظناها في التشبيه السابق، فسواد العين وبياضها متجاوران - كما هو واضح- وحينئذ لا يمكن البتة صياغة اي تشبيه اشد لصوقاً بالواقع من هذه الصورة التي تردم الحدود بين السواد والبياض... وحتى لو كان التشبيه غير مركب كما هو طابع التشبيه الثالث من هذه النصوص وهو قوله (عليه السلام): «من تعدى في طهوره: كان كناقضه» حيث ان التشبيه لا يتجاوز تركيبته الظاهرة الواحدة وهي: «نقض الوضوء»، لكن حتى هذا التشبيه لمفرده نجده مكثفاً بدلالات مماثلة للتشبيهين السابقين،... فالذي يتعدى في طهوره ما هو المرسوم له في الاحكام، يكون بذلك كمن نقض وضوءه، اي: كمن لا يتوضأ، وحينئذ فهل هناك تشبيه اشد لصوقاً بواقع هذه الممارسة المحظورة (التعدي في الوضوء) من هذا التشبيه الذي يقارن بين من يتوضأ وبين نقض الوضوء حيث لا وضوء في النهاية، أي: كونه تشبيهاً يجمع بين ادنى الشيء وأقصاه، وهو ادق ما يمكن صياغتها في هذا الميدان...
ولو تابعنا الصور الأخرى للحظنا نفس الطابع فيما لا حاجة الى الاستشهاد بها... وهو أمر يكشف - كما كررنا- عن ان العنصر الصوري وسواه في نتاج أهل البيت (عليهم السلام) يتمثل في كونه يرد في سياقات خاصة اولاً، وكونه يستقي ما هو المألوف من الخبرات اليومية ثانياً (حركة النمل، بياض العين وسوادها، الوضوء ونقضه)، وكونه مكثفاً عميقاً مركزاً ثالثاً، وكونه متناسباً مع الدلالات التي يستهدف توصيلها الينا رابعاً،... وهذه جميعاً تمثل مهمة الفن في أنجح مستوياته، بالنحو الذي اوضحناه،...
*******
(۳) تحف العقول: ص ٥۱۷.
(٤) نفس المصدر: ص ٥۱۷.
(٥) نفس المصدر: ص ٥۱٦.
(٦) نفس المصدر: ص ٥۱۷.
(۷) نفس المصدر: ص ٥۲٥.
(۸) نفس المصدر: ص ٥۱۹.
(۹) نفس المصدر: ص ٥۱۸.
*******