يظل الحديث الفني - كما كررنا- هو النموذج الغالب في نصوص اهل البيت (عليهم السلام) للأسباب التي ذكرناها في حينه،... وهو امر يمكن ملاحظته عند الامام الهادي (عليه السلام) في نصوص من نحو:
«لا تطلب الصفا لمن كدرت عليه، ولا الوفا ممن غدرت به، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك اليه، فانما قلب غيرك كقلبك له» (٤): تشبيه.
«الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر آخرون» (٥): تمثيل.
«الشاكر ابعد بالشكر منه بالنعمة التي اوجبت الشكر، لأن النعم متاع والشكر نعم وعقبى» (٦).
«السهر الذ للمنام والجوع يزيد في طيب الطعام» (۷): تورية.
«ان الظالم الحالم، يكاد ان يعفى على ظلمه بحلمه، وان المحق السفيه يكاد ان يطفىء نور حقه بسفهه» (۸): تجانس، استعارة، تقريب.
«الحكمة لا تنجع في الطباع الفاسدة» (۹): استعارة.
«خير من الخير فاعله، واجمل من الجميل قائله، وارجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، واهول من الهول راكبه»(۱۰): تجانس، توازن، جمل مقفاة، تشبيه.
ان هذه النصوص تحفل بعناصر فنية ذات اثارة وجمال وطرافة من حيث أدواتها الصورية والايقاعية واللفظية، ومن حيث تنوع هذه الأدوات... ففي صعيد (الايقاع) نجد ان النص الأخير - على سبيل المثال- يتضمن ثلاثة أنماط متنوعة من الايقاع هي: التقفية، والتوازن، والتجانس...
اما التقفية فتتمثل في عبارات (فاعله، قائله، حامله)، ثم في (جالبه، راكبه) حيث ان جمالية هذه التقفية لا تنحصر في مجرد توافق القرارات، بل في (تقسيمها) اولاً الى مقطعين: كل واحد منهما ينتظمه قرار خاص، حيث انتظم الأول (فاعله، قائله... الخ) وانتظم الآخر (جالبه، راكبه).... كما واكب هذه التقفية (تجانس) عباراتها في الصياغة والتكرار من نحو (أجمل، أهول... الخ) ومن نحو (أجمل من الجميل) (أهول من الهول) (شر من الشر)... الخ وواكب ذلك ايضاً (توازن) العبارات (خير من الخير فاعله) (أجمل من الجميل قائله) (أرجح من العلم حامله)... الخ ومن الواضح، ان كلاً من التقفية والتجانس والتوازن حينما يتآزر بعضها مع الآخر، يضفي على النص جمالية ايقاعية ملحوظة يتحسسها ادنى من يملك تذوقاً فنياً للنصوص...
واذا تركنا العنصر الايقاعي واتجهنا الى العنصر الصوري وجدنا (التنوع) في صياغة الصور يأخذ نفس الجمالية التي لحظناها في العنصر الايقاعي... فالنص المتقدم نفسه، يتضمن عنصرين من الصور هما (التشبيه) و(الاستعارة)، فعبارات (أجمل وأهول وأرجع... الخ) تجسد ما نسميه بـ (تشبيه التفاوت)، كما ان (حامل العلم، وراكب الهول... الخ) تجسد (الاستعارة) كما هو واضح...
ومن البين أن عنصر الايقاع عندما يتآزر مع عنصر الصورة كما هو طابع الحديث المتقدم، حينئذ يكتسب النص مزيداً من الجمال الفني،... فاذا اضفنا الى ذلك عنصر (القيم اللفظية) مثل (التكرار) و(التحاور) اللذين لحظناهما في النص المتقدم، حيث (تابع) و(جاور) و(كرر): عبارات الخير وقائله، والجميل وفاعله، والعلم وحامله.. الخ، أقول: اذا تآزرت ثلاث قيم فنية (ايقاعية، صورية، لفظية)، حينئذ يبلغ النص مداه المدهش (من حيث الفن) كما هو واضح من النص المتقدم.
والأمر نفسه يمكن ملاحظته في نصوص أخرى من نحو (ان الظالم الحالم، يكاد أن يعفى عن ظلمه بحلمه، وان المحق السفيه يكاد ان يطفىء نور حقه بسفهه) حيث نجد (تنوعاً في الصورة)، يتمثل في التقريب وهو عبارة (يكاد...)، ويتمثل في الاستعارة مثل (يطفىء نور حقه)،... ثم تآزر هذا العنصر الصوري مع عنصر الايقاع مثل (الظالم الحالم) و(ظلمه بحلمه)، ثم تآزر ذلك مع العنصر اللفظي مثل (التقابل) بين الظالم والحالم، والمحق والسفيه... الخ، كل اولئك- كما قلنا- يخلع على النص جمالية فائقة في تآزر العناصر الايقاعية والفظية والصورية...
وهذا كله فيما يتصل بتنوع العناصر الفنية من جانب، ويتآزر كل عنصر مع الآخر من جانب آخر....
واما ما يتصل بالعنصر الفني المستقل كما لو وقفنا عند صورة واحدة او قيمة ايقاعية واحدة او عنصر لفظي واحد، حينئذ نجد ان البعد الفني يأخذ مستوياته الفائقة ايضاً،... ففي مجال (الصورة) مثلاً نجد الصورة (التمثيلية) القائلة: «الدنيا سوق: ربح فيها قوم وخسر آخرون»، نجد هذه الصورة متميزة بخصائص فنية بالغة الدلالة، فهي تتميز بالبساطة والالفة حيث اعتمدت ظاهرة يخبرها البشر جميعاً وهي «السوق»... ولا نتوقع ان تكون هناك ظاهرة اكثر خبرة من السوق وما تواكب ذلك من عمليات البيع والشراء ومن ثم الربح والخسارة... ومن المعلوم ان الصورة الفنية الناجحة تعتمد ما هو مألوف من جانب، وما هو عميق وطريف من جانب آخر، وهذا ما يتمثل في ظاهرة السوق التي تنطوي على دلالة عميقة هي: قضية الاختبار او الامتحان او الابتلاء او الخلافة التي اوكلها الله الى الانسان، حيث جسمت الصورة قضية الاختبار في «سوق» للبيع والشراء حيث يربح البعض ويخسر البعض الآخر، فالرابح هو الذي يستخدم ذكاءه في عملية البيع والشراء، والخاسر هو الذي يلغي ذكاءه في هذه العملية، وكذلك العمل العبادي، حيث ان من يستخدم ذكاءه يمارس علمه العبادي وفق المبادىء التي رسمتها السماء، واما من يلغي عقله فينعزل عن هذه المبادىء ويهرع الى المتاع العابر ويخسر الصفقة في النهاية...
اذن: هذه الصورة (التمثيلية) تجسد اعمق الدلالات العبادية التي خلق الله تعالى الانسان من اجل ممارستها، كما تجسد اوضح وابسط الظواهر التي يخبرها الانسان في حياته اليومية، حيث لا يكف الانسان يومياً من ممارسة عملية البيع والشراء بدء من ادوات الطعام، مروراً بادوات الملبس والمسكن، وانتهاء بالأدوات الأخرى ضرورية كانت او ثانوية... ولذلك جاءت هذه الصورة (مألوفة) من جانب، و(عميقة) من جانب آخر، مكتسبة بذلك عنصر النجاح الفني - كما اوضحنا...
والأمر نفسه يمكن ملاحظته في العناصر الصورية الأخرى،... فمن العناصر الفنية للصورة - مضافاً الى الفتها وعمقها- يجيء عنصر (الطرافة) واحداً من ادوات (الجمال) للصورة،... وهذا ما نجده في (التورية) القائلة (السهر الذ للمنام، والجوع يزيد في طيب الطعام)، فهذه الصورة (مألوفة) من حيث كونها تتضمن ممارسات يومية هي الجوع والسهر، كما أنها (عميقة) من حيث دلالتها، نظراً لانطوائها على عنصر (التورية) التي تجسد مفهوم (الطرافة) ايضاً،... فالمقصود من (السهر) ليس هو السهر الاعتيادي المتمثل في عدم النوم، بل المقصود منه (قيام الليل) اي ممارسة الصلاة والذكر،... كما ان المقصود من (الجوع) ليس هو عدم التناول للطعام مطلقاً، بل المقصود منه هو (الصيام)... وهذا هو مفهوم (التورية) حسب المصطلح البلاغي الموروث، حيث تستخدم العبارة التي توحي بدلالة (قريبة) ويقصد منها دلالة (بعيدة)... الدلالة القريبة هي (السهر والجوع) والدلالة البعيدة هي (قيام الليل والصوم)... ويمكن ان نعد هذه الصورة (حسب المصطلح الحديث) (رمزاً) فيما يرمز «السهر» الى قيام الليل، ويرمز «الجوع» الى الصوم... وفي الحالتين ثمة عنصر هو (طرافة الصورة) - مضافاً الى ألفتها وعمقها- حيث ان استخلاص (الرمز) بهذا النحو يعد صياغة (طريفة) ذات جدة، وليس صياغة لشيء مبتذل في الاستخدام، وهذا ما يكسبها مزيداً من الجمال الفني، بالنحو الذي اوضحناه....
*******
(٤) المجالس السنية: ص ٦٤۹.
(٥) تحف العقول: ص ٥۱۲.
(٦) نفس المصدر، ص ٥۱۲.
(۷) المجالس السنية: ص ٦٤۸.
(۸) تحف العقول: ص ٥۱۲.
(۹) المجالس السنية: ص ٦٤۹.
(۱۰) نفس المصدر: ص ٦٤۹.
*******