الخاطرة - كما كررنا - هي: صياغة افكار سريعة يفرضها موقف عابر او مفرد، الا انها تتم من خلال لغة موشحة بالفن...
والخاطرة قد تكون فنية صرفة ما لو تناول المعصوم (عليه السلام) ظاهرة عبادية (مثل ما لحظناه عند الامام الرضا (عليه السلام) - والد الامام الجواد- في خاطراته عن مفهوم (الامامة) حيث كثفها بلغة الفن)... وقد تكون (علمية) الا انها توشح بشيء من لغة الفن،... وهذا ما يمكن ملاحظته في النموذج الآتي للامام الجواد (عليه السلام) يتصل بمفهوم التوحيد او صفات الله تعالى:
«اوهام القلوب ادق من ابصار العيون. انت قد تدرك بوهمك البلدان التي لم تدخلها ولم تدرك ببصرك ذلك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار؟».
ان هذا النموذج المركز من الخواطر يكشف عن اهمية (لغة الفن) التي تتناول ظاهرة (علمية) مثل: عدم امكانية ان تدرك الأبصار حقيقة الله تعالى...
فالملاحظ ان الامام الجواد (عليه السلام) يتميز بكونه يستخدم (لغة الفن) مماثلة لـ(لغة العلم)، فكما انه استخدم عنصر (الفرضية) بصورتها (الواقعية) دون ان يرتكن الى احداث علاقات بين الاشياء، كذلك ارتكن في هذه الخاطرة الى عنصر الصورة الواقعية او المباشرة التي تتميز عن الصورة التركيبية،... لقد اعتمد عنصر (التشبيه) في هذه الخاطرة.... والتشبيه - كما نعرف- هو احداث علاقة بين شيئين لا علاقة بينهما في عالم الواقع، الا انه (عليه السلام) استخدم هنا (تشبيهاً) مباشراً او لنقل: تشبيهاً علمياً، من نحو (أوهام القلوب ادق من ابصار العيون) فعبارة (أدق) هي واحدة من ادوات التشبيه الذي نطلق عليه اسم (التشبيه المتفاوت) مثل قوله تعالى: {كالحجارة او اشد قسوة} ومثل {كالانعام بل اضل سبيلاً} الخ... وهذا يعني انه (عليه السلام) قد استخدم عنصر (التشبيه) الا ان استخدامه كان (علمياً) وليس تركيباً صورياً يحدث علاقة بين أشياء لا علاقة واقعية بينها.
طبيعياً، ان لكل (تشبيه) تركيبياً كان، او علمياً مسوغه الفني، حيث ان الامام الجواد - كما سنرى عند ملاحظتنا لأحاديثه الفنية- استخدم كلاً من التعبيرين: الصورة التركيبية والصورة العلمية (وهذا ما يطبع سائر النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، كما هو واضح). كل ما في الامر ان السياق هو الذي يفرض هذا اللون او ذاك... ومادام الامر يتصل بصفات الله تعالى، حينئذ فان التشبيه العلمي يظل هو المسوغ لصياغته بهذا النحو الذي لحظناه عند الامام (عليه السلام)...
والأمر نفسه بالنسبة للصور الأخرى، مثل قوله (عليه السلام): «قد تدرك بوهمك... البلدان التي لم تدخلها ولم تدرك ببصرك ذلك» هذه الصورة لها اهمية علمية ضخمة حيث يمكن ان ننسبها الى ما نسميه «بالصورة الاستدلالية» التي لحظنا نماذج متنوعة منها في الادب الشرعي والعام حيث تعد من اغنى الصور الفنية التي يحفل بها ادب الشعر والنثر بعامة... والمهم هنا، هو ان هذه الصورة الاستدلالية تحفل بخصائص فنية تقوم على (المقارنة) بين ظاهرتين واحداث علاقة بينهما (وهو شأن كل الصور الفنية من تشبيه واستعارة ورمز الخ)...
الظاهرة الاولى هي: عدم ادراك الاوهام لصفات الله تعالى،... والظاهرة الاخرى تقدم نموذجاً من ادراك القلوب لبعض المحسات: مثل المدينة التي لم يشاهدها الشخص ولكنه يدركها بقلبه،... واما العلاقة المستحدثة بين الظاهرتين فهي علاقة مركبة وليست علاقة مفردة واحدة،... فأولاً هناك علاقة بين ادراك قلبي للشيء: عدم ادراك القلب لصفات الله، ادراك القلب للمدينة....
وهناك ثانياً: اقامة فارق بين ادراك القلب وادراك البصر، حيث ان اوهام القلوب - كما قال الامام (عليه السلام)- (أدق) من ابصار العيون... وهناك ثالثاً: نتيجة مستخلصة من تينك العلاقتين او المقدمتين هي: «فاوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار؟!».
اذن: نحن امام صورة (فنية) مدهشة تقوم على عنصر صوري هو الاستدلال او حسب المفهوم البلاغي تقوم على صورة التشبيه - ونحن نفضل مصطلح الصورة الاستدلالية على التشبيه، لأسباب اوضحناها في كتابنا البلاغة الاسلامية -... المهم، انا امام صورة فنية تجمع بين لغة العلم ولغة الفن بنحو مدهش بحيث جسدت صورة استمرارية، متداخلة، تشابكت خلالها ثلاثة مستويات من التركيب الذي يصوغ علاقات متنوعة بين الظواهر بالنحو المدهش الذي لحظناه، وهو امر قد توفر عليه الامام الجواد (عليه السلام) فيما يمكن القول بأنه (عليه السلام) قد تميز بغلبة الطابع العلمي في نتاجه، بحيث يحول الصورة او اللغة الفنية الى تعبير علمي، تماماً كما لحظنا ان كل معصوم (عليه السلام) يتميز بطابع محدد من التعبير الفني الذي يختص به...
والآن: اذا كان هذا الطابع الذي لحظناه عند الامام الجواد (عليه السلام) قد حول الصورة واللغة الفنية الى تعبير علمي،... حينئذ فان الطابع العام الذي يسم نتاج المعصومين (عليهم السلام) - ونعني به لغة العلم الموشحة بلغة الفن- يظل منسجماً بدوره على نتاج الامام الجواد (عليه السلام) في شكل تعبيري آخر هو:
*******