لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة ما تتضمنه من اساليب البلاغة ونكاتها... ومن ذلك ما سبق ان حدثناك عن احده، وهو الدعاء الذي يتلى في محراب امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بمسجد الكوفة، حيث ورد فيه (الهي جاءك العبد الخاطئ فزعاً مشفقاً، ورفع اليك طرفه حذراً راجياً، وفاضت عبرته مستغفراً نادماً)...
هذا المقطع من الدعاء حدثناك عنه في لقاءات سابقة عدا العبارة الاخيرة وهي (وفاضت عبرته مستغفراً نادماً).. وهو ما نحدثك عنها الان...
لقد سبق ان كررنا الاشارة الى ان الدعاء المذكور الذي يتلى في محراب الامام علي(ع) يتميز بانه يتضمن رسماً لهيئة قارئ الدعاء من حيث ملامحه الخارجية مثل مد اليد، رفعها، جلوسه العادي، جلوسه على الركبة، الخ... وقلنا ان هذه الملامح الخارجية لشخصية قارئ الدعاء انما هي تعبير عن الحالة الداخلية له، أي: الاحساس بالذنب وما يواكبه من الخوف والحذر والقلق والتوتر والندم وبالنسبة الى نهاية الدعاء المذكور نجد ان المقطع يتضمن رسماً لملمح خارجي هو رفع الطرف الى السماء: مسبوقاً بحالة داخلية هي: الفزع والاشفاق (الهي جاءك العبد الخاطئ فزعاً مشفقاً) ولحظة حالة داخلية هي الندم بعد رسمه لملمح خارجي هو "افاضته عبرته" أي البكاء وبعد رسم لملمح خارجي آخر هو: استغفاره، أي الهيئة اللسانية المتمثلة في النطق بكلمات الاستغفار...الخ.. وقد بينّا ـ في لقاء سابق ـ التحام هذه الحالات النفسية والجسدية؟ .. ونقتصر الآن على ملاحظة الحالة النفسية والجسمية لقارئ الدعاء في الفقرة الاخيرة منه وهي "وفاضت عبرته مستغفراً نادماً" اذن لنتحدث عنها ...
ان هذه العبارة على بساطتها أي عبارة "وفاضت عبرته مستغفراً نادماً" تنطوي على دقائق المعاني من حيث رسمها للحالة الداخلية لقارئ الدعاء والندم، والحالة اللسانية "الاستغفار" والحالة الخارجية "البكاء"...
وبالنسبة الى حالة "الندم" لا نحتاج الى توضيح لدلالته، حيث ان مجرد حصوله يعد تعبيراً عن الحالة السوية للشخص.. ولذلك ورد عن المعصوم(ع): "كفى بالندم توبة" .. أي : ان التوبة وهي العزم على عدم المعاودة الى ممارسة الذنب: يكفي فيها ان يحصل الندم لدى الشخص على مقارفته للذنب... بيد ان عملية "الندم" ليست حالة عادية يمر بها الشخص بقدر ما تفصح عن تمزق الشخصية وتوترها وصراعها والمعاتبة على صدور الذنب...
من هنا: جاءت الصورة التي رسمها منشئ الدعاء(ع)، مشفوعة بنمطين عن الرسم الخارجي للشخصية هما: الرسم اللساني "الاستغفار" والرسم الخارجي "البكاء"...
والسؤال هو: ماذا نستخلص من الرسمين المذكورين؟
بالنسبة الى "الاستغفار" نجد ان هذه العملية تأخذ فاعليتها في حالة ما اذا كان هذا الناشط اللساني مفصحاً عن الناشط الداخلي وهو "الندم" ... أي: ضرورة كون الاستغفار واقعياً مفصحاً عن الندم، وليس مجرد كلام صادر من اللسان... ولكن الملمح الاشد اهمية من الجميع هو: الرسم الخارجي المتمثل في البكاء... واذا كان "اللسان" مثلاً، قد يكون تعبيراً صادقاً عن الندم وقد لا يكون كذلك، أي: مجرد كلام، فان "البكاء" يختلف عنه تماماً، لانه ببساطة يعبر بالضرورة عن صدق "الندم" لدى الشخصية بصفة ان البكاء هو التجسيد الحي او التصعيد الكبير للحالة النفسية او العاطفية الحادة التي تنتاب الشخصية بحيث لا تملك سوى البكاء المفصح عن الحالية العاطفي المذكورة، أي: اذا لم يستطع الانسان السيطرة على عاطفته الحادة فان النتيجة الطبيعية لهذا هي: البكاء "كما هو واضح"... من هنا وردت التوصيات المتنوعة بالنسبة الى البكاء بحيث اشارت التوصيات الواردة عن المعصومين عليهم السلام الى ان البكاء هو السمة او العلامة الكاشفة عن رقة القلب ونقاءه وصفائه، والعكس هو الصحيح أي: ان القلب القاس هو القلب الذي لا يعرف طريقاً الى البكاء، او القول بان عدم البكاء علامة على مشادة القلب... والمهم هو ذلك كله، حينما تحدثنا الفقرة الاخيرة من الدعاء بان العبد الخاطئ قد فاضت عبرته مستغفراً نادماً فان ذلك يعبر بوضوح عن اعمق درجات الندم، بحيث انسحب على لسان الشخص من حيث كونه وسيلة للتعبير عن الحالة وعلى دموعه من حيث كونها فرزاً طبيعياً للحالة المذكورة اخيراً يجدر بنا جميعاً ان نستثمر تلاوتنا لهذا الدعاء، وذلك بمحاسبة انفسنا وتدريبها على ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******