الحديث الفني
قلنا ان الحديث الفني لدى المعصومين عليهم السلام أكبر الأشكال التعبيرية حجماً، كما يظل اشدها حشداً بلغة الفن، نظراً لقصر العبارة من جانب وتكثيفها بالدلالات المركزة من جانب آخر، وبما أن الامام الصادق (عليه السلام) أثر عنه رقم كبير من الأحاديث للأسباب التي اوضحناها في حينه، لذلك نجد (تنوعاً) ملحوظاً لدى الامام (عليه السلام) في هذا الميدان، فهناك اولاً:
*******
الحديث المصنف
وهو الحديث الذي يتضمن توصيات وحقائق مختلفة، الا انها تصاغ وفق تصنيف ثنائي او ثلاثي او رباعي او خماسي او سداسي... الخ، وهذا من نحو قوله (عليه السلام):
«ثلاثة فيهن البلاغة: التقرب من معنى البغية، والتبعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير»(۹).
«ثلاث خصال من رزقها كان كاملاً: العقل والجمال والفصاحة»(۱۰).
«ثلاث خصال يحتاج اليها صاحب الدنيا: الدعة من غير توان،والسعة مع قناعة، والشجاعة من غير كسلان»(۱۱).
«ثلاثة يستدل بها على اصابة الرأي: حسن اللقاء، وحسن الاستماع، وحسن الجواب»(۱۲).
«من لم يرغب بثلاث ابتلي بثلاث: من لم يرغب في السلامة أبتلي بالخذلان، ومن لم يرغب في المعروف أبتلي بالندامة، ومن لم يرغب في الاستكثار من الاخوان أبتلي بالخسران»(۱۳).
ان أمثلة هذا التصنيف تتميز بكونها (توصيات) أو (حقائق) مركزة تطبعها سمة الترقيم الثلاثي او الرباعي او غيره، كما انها توشح حيناً بقيم ايقاعية كما لحظنا، وحيناً اخر بقيم صورية وهي في الغالب تدرج ضمن:
*******
الحديث المألوف
وهو ما يتضمن - كما أشرنا- عنصراً صورياً يكسب الدلالة التي يستهدفها جانباً من التعميق والتوضيح، فضلاً عن الجمالية التي تنطوي عليها تركيبة الصور كما هو واضح، وهذا من نحو قوله (عليه السلام):
«لا يزال العز قلقاً حتى يأتي داراً قد استشعر اهلها اليأس مما في أيدي الناس، فيوطنها»(۱٤).
«تدخل يدك في فم التنين، خير لك من طلب الحوائج الى من لم تكن له»(۱٥).
«ما من مؤمن ادخل على قوم سروراً، الا خلق الله من ذلك السرور ملكاً يعبد الله تعالى ويحمده ويمجده، فاذا صار المؤمن في لحده اتاه ذلك السرور الذي ادخله على اولئك فيقول: انا اليوم اونس وحشتك والقنك حجتك...» (۱٦).
«من لم يستح من العيب، ويرعو عند الشيب، ويخش الله بظهر الغيب فلا خير فيه» (۱۷).
أمثلة هذه الأحاديث تنتثر بوضوح في كلام الامام الصادق (عليه السلام)، حيث يلجأ (عليه السلام) حيناً الى (الايقاع) كالنموذج الأخير (العيب، الشيب، الغيب) وقد يلجأ فيها الى عنصر (المحاورة القصصية) مثل الحديث ما قبل الأخير، وقد يلجأ الى (الصورة الفنية) كالحديثين الأولين، فالحديث الأول - على سبيل المثال- قد اعتمد (الصورة الاستعارية)، الا انه (عليه السلام) قد أحكم صياغتها بنحو يمكن تسميته بـ (الاستعارة القصصية)، حيث ان (العز) - وهو أشد الحاجات والدوافع ذات الأصل النفسي الحاحاً لدى الانسان- لا يمكن تحققه الا من خلال اليأس عما في يد البشر، لأن الحاجة اليهم تقترن - ضرورة- بالذل الذي يتحسسه صاحب الحاجة، لذلك تجيء الاستعارة القصصية ذات مسوغ فني كبير لكي تبلور الحقيقة في الأذهان،... وهذا ما تجسد في تلك الصورة التي أكسبت (العز) سمة بشرية هي القلق، ثم استعارت له سمة مكانيةهي الدار وسكناها، ثم رتبت على سكن الدار كون اصحابها قد نفضوا ايديهم عما لدى الناس، ثم اكسبت (العز) سمة بشرية أخيرة هي التوطين في تلكم الدار...
وحين نتأمل هذه الاستعارة القصصية بدقة، ندرك مدى فاعليتها في تحديد مفهوم العز، لأن (التوطن) هو (رمز) للاستقرار والثبات، كما ان (الدار) ذاتها هي المكان الوحيد الذي يعزل الانسان عن الآخرين، وحينئذ عندما يتم التوطن والعزلة، فهذا يعني انعدام الحاجة أساساً لأي مصدر خارجي (عن الدار وأهلها)، وهو قمة ما يمكن تجسيده في صورة حسية واقعة بالنحو الذي لحظناه.
*******
(۹) نفس المصدر : ص ۳۳۰.
(۱۰) نفس المصدر: ص ۳۹٤.
(۱۱) نفس المصدر: ص ۳۳۹.
(۱۲) نفس المصدر: ص ۳۳۸.
(۱۳) نفس المصدر: ص ۳۳۲.
(۱٤) المجالس السنية: ج۲، ص ٥۰۹.
(۱٥) نفس المصدر: ص ٥۰۸.
(۱٦) نفس المصدر : ص ٥۰٦.
(۱۷) نفس المصدر: ص ٥۰٦.
*******