الكلمة، قد تكون كلاماً يوجهه الامام (عليه السلام) الى أحد الاشخاص، او وصية يتقدم بها الى احدهم،... ومن ذلك مثلاً وصيته (عليه السلام) لجابر الجعفي، حيث نثر له جملة من التوصيات المصاغة بلغة تتأرجح بين الكلام المباشر وبين الكلام المصوغ بعنصر صوري،... وهذا من نحو قوله (عليه السلام):
«واعلم انه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستضعافك الدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية، ولاعافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا عدل كالانصاف، ولا تعدي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كاداء الفرائض، ولا خوف كالحزن، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلة اليقين، ولا قلة يقين كفقد الخوف، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالجهالة التي انت عليها، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ولا قوة كرد الغضب، ولا مصيبة كحب البقاء، ولا ذل كذل الطمع، واياك والتفريط عند امكان الفرصة، فانه ميدان يجري لأهله بالخسران»(۳).
ان هذا النص يحفل بسمة فنية خاصة هي: كونه يعتمد عنصر (التشبيه) في تقرير قضايا عبادية واخلاقية ونفسية،.... أي أن هذا النص - هو في واقعه- وثيقة نفسية ترتبط بسمات الشخصية الاسلامية مثل: سلامة القلب، مخالفة الهوى، اليقين، الزهد، علو الهمة،... الخ، بيد ان الامام (عليه السلام) صاغ هذه الوثيقة وفق لغة فنية تعتمد (التشبيه) من خلال أداة النفي مع ملاحظة ان (التشبيه الفني) عند المعصومين عليهم السلام يختلف عن التشبيه الذي يصوغه العاديون من البشر، حيث يظل (التشبيه) عند قادة التشريع (واقعياً) لا يعتمد الوهم او الاحالة او الاسطورة ونحوها، لذلك عندما يعقد (تشبيهاً) بين السلامة والقلب أو العقل ومخالفة الهوى مثل قوله (عليه السلام) لا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى فان مثل هذا التشبيه يظل (واقعياً) كل الواقعية اذ أن (سلامة القلب) تفوق اية سلامة اخرى كسلامة البدن مثلاً، فالبدن اذا كان سليماً لا ينتفع صاحبه بهذه السلامة مادام قلبه مريضاً، حيث ان (المرض النفسي) يفقد الشخصية توازنها الداخلي فتحيا التوتر والتمزق والصراع... الخ، هذا من حيث الانعكاسات الدنيوية، اما من حيث الانعكاسات الأخروية فان سلامة القلب هي المعيار الوحيد الذي يفضي بصاحبه الى الظفر بالامتاع الأخروي الخالد....
واما السمة الفنية الاخرى التي تطبع هذا النص، فهي: تتابع هذه التشبيهات التي تتجاوز الثلاثين تشبيهاً، حيث لا يكاد الدارس يظفر بنص يعتمد هذا الرقم من التشبيهات: اذ ان ما يسمى بـ (التشبيه المتكرر) قد يبلغ ثلاثة او اربعة أو اكثر من التشبيهات التي تفرضها سياقات خاصة، أما أن تقدم سلسلة او قائمة ضخمة من التشبيهات بالنحو المتقدم فامر يندر حصوله في النصوص الفنية او العلمية.
واما السمة الثالثة في هذه التشبيهات فهي: اعتمادها على ما نسميه بالتشبيه (التفريعي) أي التشبيه الذي يتفرع منه تشبيه آخر مثل (لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب) حيث فرع على تشبيه (طلب السلامة) تشبيهاً هو (سلامة القلب)،... وهكذا سائر التشبيهات مثل (لا نعمة كالعافية) وتفريع التشبيه التالي عليها (ولا عافية كمساعدة التوفيق)،...
وأما السمة الرابعة في هذه التشبيهات فهي: اعتمادها (التماثل والتقابل) مثل (لا قلة يقين كفقد الخوف، ولا فقد خوف كقلة الحزن)حيث ماثل بين (قلة) اليقين، (وقلة) الحزن،... ومثل: (لا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين) حيث قابل بين (الخوف) و(الرجاء)...
وهناك سمات فنية متنوعة اخرى تعتمد (التجانس الايقاعي) وسواه، مما لا حاجة الى الوقوف عندها.
ان هذا النموذج القائم على عنصر (التشبيه) يجسد واحداً من فن الكلمة...
ولو تابعنا الكلمة المتقدمة ذاتها، لوجدنا ان قسماً منها يعتمد عنصر (الاستعارة) في تقرير الحقائق: مع ملاحظة خضوعها لسمات فنية مماثلة للسمات التي طبعت النص المتقدم،...
لنقرأ مثلاً:
«ادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوق مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم... وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بايثار القناعة... الخ»(٤).
فالملاحظ هنا، أن العبارات (الاستعارية) تتتابع وتتفرع واحدة عن الأخرى (كما تتابع وتفرع التشبيه)، فحاضر الشر يدفع بحاضر العلم، وهذا الأخير يدفع بخالص العمل، وهذا الآخر يتحرز فيه بشدة التيقظ، وهذا الآخر بصدق المخافة... وهكذا.. حيث تتفرع كل صورة عن سابقتها لتشكل سلسلة مشدودة الخيوط كما لحظنا... فضلاً عما واكب هذه السلسلة من عناصر التقابل والتماثل، والتجانس و.. الخ، بنحو ما لحظناه في النص الأسبق...
هذه النماذج تشكل نصوصاً متأرجحة بين لغة العلم والفن،... واما ما سبقها: فيجسد - وهي فن الخطبة - نصاً فنياً خالصاً،... وهناك نمط ثالث من النصوص يمثل النموذج الموشح بلغة الفن، اي ان الأصل فيه هو اللغة العلمية، الا انه (عليه السلام) يوشحها بلغة الفن ايقاعياً وصورياً،... مما ندرجه ضمن:
*******
(۳) نفس المصدر: ص ۲۹٤، ۲۹٥.
(٤) نفس المصدر: ص ۲۹۳.
*******