النماذج المتقدمة، تشكل (أدباً سياسياً) من حيث كونها تتعرض للسلطة والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها.
وهناك نوع من الأدب الذي يعنى بالعلاقات الاجتماعية ايضاً، الا انها تتجاوز ما هو خاص - مثل السياسة- الى مطلق العلاقات الاجتماعية، وهذا ما توفر الامام (عليه السلام) على العناية به ايضاً في ضوء الواقع الاجتماعي الذي يواجه الانسان فيما يفرض عليه اقامة علاقات خاصة وعامة من خلال المفهوم العبادي لهذه العلاقات...
وقد اتيح للامام السجاد (عليه السلام) ان يتوفر على صياغة (بحث) او (مقال) اجتماعي يتناول حصيلة او مختلف العلاقات التي تربط الفرد بسواه، حيث صاغ (عليه السلام) خمسين مادة اجتماعية، تلخص علاقة الانسان بالله، والمجتمع والفرد. اي ان هذه المواد ترسم التصور الاسلامي لعلاقة الانسان بالآخرين، فيما ينبغي لفت النظر الى الأهمية الكبيرة لمثل هذه المواد التي تتجاوز البحث الخاص او الجزئي الى نظرية اجتماعية في العلاقات....
لقد رسم الامام (عليه السلام) ثلاثة مستويات من المسؤولية على الانسان:
۱-مسؤوليته حيال الله تعالى.
۲-مسؤوليته حيال نفسه.
۳-مسؤوليته حيال الآخرين.
ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية تنحصر في هذه الأطراف الثلاثة، اذا أخذنا بنظر الاعتبار ان العلاقة مع الله تشكل طرفاً خاصاً او طرفاً رئيساً تترتب عليه العلاقات الأخرى، وهذا ما اوضحه الامام (عليه السلام): «ان لله عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها، او سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها. أو آلة تصرفت بها، بعضها اكبر من بعض، واكبر حقوق الله عليك ما اوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو اصل الحقوق ومنه تفرع».
واما ما يتصل بعلاقة الانسان مع نفسه، فقد ابرز الامام (عليه السلام) مستويات التعامل مع جوارحه السبع: البصر، السمع، اللسان، اليد، الرجل، البطن، الفرج، اي كيفية استخدامها في العمل العبادي.
واما ما يتصل بعلاقة الانسان مع الآخرين، فقد حددها (عليه السلام) بدأً من اصغر وحدة اجتماعية: العائلة، الى اكبر موسسة اجتماعية: الدولة، او الامام، مروراً بالأقرباء، الجيران، الأصدقاء، الرعية، الأقليات، الخصوم،... الخ.
ثم يعلق (عليه السلام) على هذه العلاقات او الحقوق التي فصل الحديث عنها، قائلاً: «فهذه خمسون حقاً محيطاً بك لا تخرج منها في حال من الاحوال، يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها والاستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوة الا بالله، والحمد لله رب العالمين»(۳).
ما يعنينا من هذه الوثيقة الاجتماعية بعدها الفكري والفني، اما بعدها الفكري فيكفي انها تشكل وثيقة لم يتوفر على مثلها اي باحث اجتماعي من حيث تصنيفها لمفهوم (العلاقات) فضلاً عن ان هذه العلاقات قد تم صياغتها وفقاً للمفهوم العبادي للانسان، مما يجعلها متفردة في ميدان البحث الاجتماعي.
واما فنياً، فلا نتوقع من البحث الاجتماعي ان يعنى بعناصر ايقاعية او صورية - مثلاً- تنصب العناية فيها على توضيح الأفكار بنحو جلي، ومحدد... لكن مع ذلك نجد أن العنصر اللفظي من جانب، من حيث احكام العبارة، ثم توشيحها بين حين وآخر ببعض العناصر الصورية والايقاعية من جانب ثان فضلاً عن بنائها المحكم من جانب ثالث، نجد كل ذلك متوفراً في الوثيقة المشار اليها.
فمثلاً يقول (عليه السلام) عن علاقة الانسان بمن ينصحه: «واما حق الناصح فان تلين له جناحك، ثم تشرئب له قلبك، وتفتح له سمعك»: حيث حشد هذه الفقرة بثلاث استعارات: فجعل للين جناحاً، وللقلب امتداداً، وللسمع باباً...
وحين تحدث عن علاقة الانسان بامامه لصلاة الجماعة، قال: «...فان تعلم انه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله، والوفادة الى ربك، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك هم المقام بين يدي الله والمسألة له فيك ولم تكفه ذلك».
فالملاحظ هنا، أن عنصر (التقابل) و(التكرار) و(التجانس) و(المزاوجة اللفظية) قد لعب دوراً كبيراً في اضفاء الجمال والامتاع على العبارات المشار اليها...
ويمكنك ان تتامل بدقة عبارات من نحو: (دعا لك، لم تدع له) (طلب منك، لم تطلب منه) (كفاك، لم تكفه) حتى تتحسس جمالية مثل هذه الأدوات اللفظية: من تقابل، ونفي. وايجاب... الخ، وهكذا سائر العبارات التي تحتشد بعنصر لفظي وصوري مثل «انه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجي اليه، وعزك الذي تعتمد عليه... الخ» حيث تتابعت صور (التمثيل) في هذه الفقرة مقابل تتابع صور (الاستعارة) في فقرات سابقة... ومن نحو: (ان الله جعلها سكناً ومشراحاً وانساً وواقية) حيث حشد اربع صور متتابعة واحدة بعد الأخرى...
ومثل قوله عن الأم: «وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك، فرحة، موبلة محتملة... الخ»، حيث حشد الفقرات باستعارة لجميع جوارح الأم: السمع، البصر، اليد، الرجل... الخ، ثم وشحها بصياغة فنية ذات عنصر وصفي مثل: فرحة، موبلة، محتملة... الخ، فضلاً عن توشيحها بتجانس صوتي من حيث الفواصل او من حيث تماثل الاصوات... الخ.
اذن: بالرغم من ان الوثيقة الاجتماعية المشار اليها، قد تمحضت للبحث عن ظواهر عملية تتصل بتصنيف العلاقات بين الانسان وبين الاطراف الثلاثة: الله تعالى، النفس، الآخرين، الا انه (عليه السلام) وشحها بلغة فنية بالنحو الذي اوضحناه.
*******
(۳) نفس المصدر: ص ۲٦۰، ۲۷۸.
*******