نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من لا ينقص من خزائنه شيء، يا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، يا من لا يعزب عن علمه شيء، ...). هذه العبارات امتداد لما سبقتها من عبارات متجانسة في مقطع الدعاء الذي نحدثك عنه، والمهم هو ملاحظة هذه المظاهر، وفي مقدمتها عبارة (يا من لا ينقص من خزائنه شيء). فماذا نستلهم منها؟ ان الله تعالي بيده خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وهي مطلقة لا حدود لها، بيد ان النكتة التي ينبغي لفت الانتباه عليها هي: ان الله تعالي عندما يمنح من خزائنه هذا الفرد أو الجماعة أو الجهة او، فان خزائنه تبقي لا نهائية، اي لا ينقص منها شيء وهذا المظهر من عظمته تعالي يجعل الشخصية ممتلئة بالثقة والاطمئنان وباليقين من ان الحاجات التي تطلبها من الله تعالي ممكنة الاشباع مهما كان حجمها ونمطها، حيث ان من بيده كُلَّ شَيْءٍ وهو رحيم بعباده لا يحجزه عن العطاء الا في حالة مااذا كانت الحاجة غير مشروعة أو ليست في مصلحة الشخصية. بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، هذه العبارة تحتاج الي مزيد من الانارة لدلالتها. الملاحظ اولاً ان هذه العبارة تتضمن أداتين تشبيهيتين هما (الكاف) و(مثل)، والملاحظ ثانياً ان الاداتين التشبيهيتين غير منفصلتين بل تظل احداهما اداة تشبيهية (وهي الكاف) دون ان يطرأ علي وظيفتها الفنية تغير ما، ولكن الاداة (مثل) هي التي نجد بانها تتحول الي (مشبه به) وهو امر يدعو الي التساؤل والدهشة مما يعني ان ثمة نكتة تكمن وراء ذلك، وهو أمر كذلك، اي يتضمن نكتة يتعين علينا ان نحدثك عنها الآن. الظاهرة المتقدمة تتصل بصفات الله تعالي، ومن ثم تتصل بصفة لها دلالتها المتفردة بالنسبة الي مفهوم التوحيد، والتوضيح الآن علي هذا النحو: ان التجربة البشرية عندما تجنح الي التشبيه انما تقارن بين شيئين يتوحدان وينتج عنهما شيء ثالث كما لو قارنا بين الجود وبين البحر فتنتج من المقارنة صفة جديدة هي (الجود) ولكن عندما ننتقل الي صفة (التفرد) لله تعالي حيث لا يمكن مقارنة ذلك بأي شيء حينئذ تنتفي ظاهرة التشبيه المألوف، وتنتقل الي تشبيه غير مألوف او لنقل الي ما ليس بتشبيه بل الي شيء وتفرد هو: ان الله تعالي لا (مثل) له اي: لا طرف آخر يماثله، ومادام الامر كذلك، حينئذ كيف نصفه؟ الجواب: الوصف يجئ بأداة تشبيه تنفي التشبيه وهي (الكاف) وحينئذ يكون المعني علي هذا النحو: ان الله تعالي لا يماثله شيء، وعدم المماثل لا مماثل له ايضاً، اي: لا يمكننا ان نصفه بأدواتنا الحسية او المعنوية نظراً لتفرده الذي لا تفرد آخر يماثله. عند ذلك نواجه عبارة (يا من لا يعزب عن علمه شيء) وهي عبارة مجسدة لأحد انماط التفرد في عظمته الا وهو: انه تعالي عالم مطلع على كُلَّ شَيْءٍ حيث لا يغفل تعالي عن اي شيء والفارق بين عبارة لاحظناها في المقطع وهي: (يا من لا يخفي عليه شيء) وبين العبارة الحالية: (يا من لا يعزب عن علمه شيء) هو ان الاولي تعني بانه تعالي مطلع علي كُلَّ شَيْءٍ بينما الثانية تعني: انه لا ينسي او يسهو او يغفل عن الشيء، والفارق بينهما من الوضوح بمكان.
*******