نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الجديدة، وهو المقطع البادئ بما يأتي: (يا من لا يعلم الغيب الا هو، يا من لا يصرف السوء الا هو، ...)، ان هذا المقطع البادئ بهاتين العبارتين: (يا من لا يعلم الغيب الا هو) و (يا من لا يصرف السوء الا هو) لابد وان تنطوي هاتان العبارتان المتجاورتان علي دلالة مشتركة، في نفس الوقت الذي نلاحظ فيه انهما تتناولان موضوعين يختلف احدهما عن الاخر كل الاختلاف حيث لا يجد في ظاهر العبارتين ما يجمعهما في دلالة مشتركة ولكن - كما قلنا - فان التجانس سيتضح بجلاء حينما نبدأ بالقاء الانارة عليهما؟
الاولي من العبارتين تتحدث عن الغيب، والغيب - كما هو واضح - يقابل الشهادة؟ اي: ثمة ظواهر تخضع للمشاهدة، وثمة ظواهر لا تخضع لذلك بل تماط بستار يحجز النظر اليها.
والسؤال: ما هي النكات الكامنة وراء العلم بالغيب؟
لا نحتاج الي كبير تأمل حتي ندرك سريعاً بان الله تعالي (وهو العالم مطلقاً) يظل (الغيب) أحد مصاديقه، ان الانسان منحه الله تعالي قابلية علي المشاهدة لما هو حتمي او حتي علي الملاحظة لما هو معنوي غير حسي، ولكن (الغيب) هو شيء آخر، اي: ما لا امكانية بشرية الي مشاهدته، يستوي في ذلك ان يكون الغيب مظاهر مادية أو معنوية، تتصل بالدنيا والاخرة، أو تتصل بالسلوك البشري والملائكي والحيواني، حيث ان العلم بذلك يظل من عظمة توحيده تعالي، ولعل ابرز معطيات ذلك هو: علمه تعالي بما في قلب البشر وخاطره وجوانحه من الاخطار والنوايا، وانعكاسات ذلك علي الجزاءات التي يرتبها تعالي في الدنيا والاخرة.
ولكن لندع الآن عالم الغيب، ونتجه الي العبارة الثانية القائلة بانه: (لا يصرف السوء الا هو)، اي: الله تعالي، فماذا نستلهم؟
ان علم الله تعالي بالغيب بخاصة فيما يتصل - لا أقل - بسلوكنا البشري له انعكاساته كما أشرنا فمثلاًً ان علمه تعالي بما سيحدث لهذه الشخصيّة او تلك من حيث السوء (حادثة قتل، اصطدام، حريق كسر، جروح، مرض عضال) هذه الحوادث يتدخل تعالي فيها ويحفظ الشخصية من التردي فيها بحسب ما يتطلبه السياق من المصلحة، ايضاً ان علمه تعالي بالغيب يفسح المجال للعبد بان يعدل سلوكه، ويقلع عن الذنب، ويتوب الي رشده. كيف ذلك؟
ان العبد يمارس الذنب، ولكن الله تعالي يمهله من خلال العلم بالغيب بامكانية ان يتوب العبد من ذنوبه، وبذلك يصرف السوء عنه في الدنيا والاخرة، ونحن نعلم بوضوح ان للذنب آثاره الدنيوية مثلاًً، فاذا لم يمهل تعالي عبده اي لم يفسح له مجال التوبة لا حقاً مثلاً، حينئذ فان العدالة الالهية تستبتع معاقبة العبد، ولكنه تعالي عندما يفسح المجال للعبد لا حقاً بان يتلافي ذنوبه: حينئذ يكون الله تعالي من خلال علمه بالغيب قد انقذ عبده من العقاب، وهيّأ له الفرص في ممارسة الطاعة، وهذا هو منتهي العطاء: كما هو واضح.
اذن الصلة بين علم الله تعالي بالغيب، وبين صرف السوء عن العبد، تظل من الوضوح بمكان، سائلين الله تعالي ان يوفقنا الي ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الي النحو المطلوب.
*******