نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الان عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، يا مَنْ أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).
بهذين المظهرين من مظاهر عظمة الله تعالي ينتهي احد مقاطع الدعاء، وهذان المظهران يعنيان بعلم الله تعالي وهو علم كسائر صفاته تعالي لا حدود له، اي العلم المطلق، ولكن النص ذكر نمطين من ذلك، هما العلم المحيط بِكُلِّ شَيْءٍ والعلم المحصي كل شيء ومن الطبييعي ان احدهما غير الاخر.
بالنسبة للعبارة الاولي القائلة: (يا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) تعني: انه تعالي لا يخفي عليه شيء البته مهما صغر او رق او خفي علي الادميين، وما ينبغي ان يستثمره قاريء الدعاء من هذه الصفة، هو ان يتداعي بذهنه الي ان الله تعالي لا يخفي عليه اي شيء، وفي مقدمة ذلك السلوك الصادر من قاريء الدعاء سواء اكان نية، ام لفظا، ام عملاً، وهذا ما يجعل قاريء الدعاء حذرا لا يمارس المعصية مهما كان حجمها مادام الله مطلعا عليها.
وأما بالنسبة للعبارة الاخيرة وهي: (يا مَنْ أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) فتعني: انه تعالي لا يدع ظاهرة إلا أحصاها، اي أخضعها لعملية احصاء من حيث الكم، بينما كانت العبارة الاولي تخضع الي الكيف او الي الأعم منها، والنكتة وراء ذلك هي: ان الله تعالي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض والسماء، وأما من حيث انعكاساتها علي قاريء الدعاء، فانها كسابقاتها تتداعي بالذهن الِي انه تعالي يحصى عدد ذنوبنا فضلاً عن احصاءه لكل ما ورد في الوجود بطبيعة الحال.
بعد ذلك يواجهنا مقطع جديد علي هذا النحو: (اللهم اني اسألك باْسمك: يا أول، يا أخر، يا ظاهر، يا باطن، يا بار، يا حق، ...)، فماذا نستلهم من ذلك؟
بالنسبة الي العبارة الاولي، وهي: (يا أول يا أخر): تعني ان الله تعالي كما ورد في النصوص الشارحة لهما اي بعبارتي (اول) و(اخر)، انه تعالي سابق لكل الموجودات حيث كان ولم يكن سواه تعالي، وهو لم يزل ولا شيء سابق عليه، كما لا شيء من الوجود يبقي من حيث النهاية سواه تعالي وهذا ما ينسحب علي عبارة (الآخر)، اي: انه تعالي هو الباقي بعد نهاية الخلق او الوجود، فهو اذن: الاول قبل كل شيء، والاخر بعد كل شيء وما ينبغي ان يستثمره قاريء الدعاء هو: ان يتداعي بذهنه الي انه اي المخلوق ومنه: قاريء الدعاء: له اخر، وهو الموت، وأن ما بعد الموت هو: الجزاء علي الاعمال، وهذا ما يدفع قاريء الدعاء الي ان يعتبر بهذه الحقيقة: لتعديل سلوكه.
طبيعياً، ان المعرفة بعظمة الله حيث انه الاول والآخر، اي: المتفرد في وجوده تظل مفزوعاً منها بيد ان انعكاسات ذلك علي سلوك القاريء للدعاء يظل معطي له اهميته الكبيرة بطبيعة الحال، مادمنا نعرف تماماً بأن الله تعالي: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، اي يمارسون ما هو الموكل اليهم من السلوك. بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا باطن يا ظاهر)، فماذا نستلهم منها؟
تشير النصوص الشارحة بأن المقصود من (الظاهر) هو ما نلاحظه من الإبداع الكوني المفصح عن وجوده تعالي حيث تظهر آياته الإبداعية، فيكون ظاهراً في دلائله. اما (الباطن) فيعني: انه تعالي خفي علينا، ولا يمكننا أستكشاف ذاته تعالي، حيث احتجب تعالي من معرفة الآخرين لِكنهِ ذاته وهناك من الشراح من يشير الي انه تعالي (الظاهر) من حيث علمه بالسرائر، ومن حيث اطلاعه علي الباطن من السلوك.
المهم بعد ذلك ان قاريء الدعاء يتداعي بذهنه الي جملة معطيات منها: المعرفة بعظمته من حيث الآيات الكونية التي نشاهدها، ومن حيث خفاء ذاته تجعل استنتاجاتنا حيال ذلك مقرونة بما هو عميق ومدهش من العظمة الإلهية، فضلاً عما نستجيب له من تعديل السلوك في غمرة معرفتنا بانه تعالي مطلع علي سرائرنا، وما بطن من السلوك.
*******