نواصل حديثنا عن الادعية المباركة ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الان عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا مَنْ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء، يا مَنْ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء، يا مَنْ يعز من يشاء، يا مَنْ يذل من يشاء).
هذه العبارات امتداد لما سبقها من عبارات مجانسة لها، ونعني بها كما اشرنا الي ذلك في حديث سابق العبارات المزدوجة التي تتقابل وتتماثل وتتوزاي فيما بينها، حيث لاحظنا في حديث سابق عبارة: (يا مَنْ يَهْدِي مَن يَشَاء، يا مَنْ يُضِلُّ مَن يَشَاء).
والان كذلك نلاحظ الظاهرتين المتزاوجتين، اي العذاب والمفغرة والاعزاز والاذلال (وهما تتضادان قبالة احداهما الاخري)، فعبارة: (يا مَنْ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء) تتقابل مع (يا مَنْ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء).
وهكذا سائر عبارات المقطع كما سنلاحظ ذلك لاحقا ان شاء الله تعالي.
ونقف عند عبارة (يا مَنْ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء). فماذا نستلهم منها؟
من البين ان تزكية الاخرين لا تترتب عليها الاثار بقدر ما تنحصر التزكية من الله تعالي للاخرين، فبقدر الطاعة وعدمها يتحدد الثواب او العقاب، هذا من جانب ومن جانب آخر فمن الممكن ان يختُم للعاصي مثلاً بما هو خير، وبالعكس ايضاً، سر ذلك ان الله تعالي وحده هو العارف بسرائر البشر او علانيتهم، وما يتطلبه الرحمة من الله تعالي في غفران او تهوين العقاب مثلاً، حيث وردت نصوص متنوعة تقرر بان من الممكن مثلاً ان يساعد احدنا الفقير مثلا بدراهم معدودة، او يقوم بعمل عبادي بسيط او بصلاة او بدعاء فيه الانكسار مثلاً، فنجد انه تعالي يرفع عنه العذاب وتنسحب عليه مقولة «يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء» او العكس من ذلك ايضاً حيث يختم له بالسوء (اعاذنا تعالي من ذلك) مع انه طوي عمره في الطاعة.
اذن ان الله تعالي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بقدر ما تتطلبه الحكمة التي نجهلها نحن البشر بطبيعة الحال.
ونتجه الي عبارة (يعزُّ من يشاء) وعبارة (يذل من يشاء)، حيث نجد انهما تتماثلان في السابق في مقابل احداهما مع الاخري عبر التضاد.
هنا يتعين علينا ان نشير الي ان الله تعالي وهو الحكيم المطلق يعز الشخصية ويذلها: بحسب طاعتها كثرة او قلة او عدم ذلك، وكما ان الغفران والعقاب يخضعان لما هو مرتبط بحجم الطاعة والعقاب، كذلك فإن الاعزاز والاذلال لهذه الشخصية او المجتمع او ذاك يتم وفق ما ذكرناه.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا مَنْ يصور فِي الأَرْحَامِ)، «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء»، وبهما نختم المقطع، فنقول: بالنسبة لعبارة (يصورفِي الأَرْحَامِ) تشير النصوص التفسيرية الي ان التصوير ينطوي علي جملة دلالات منها: الذكر والانثي، ومنها التكييف للموقف بحسب خطر الجنين من السعادة والشقاء، او الخير والشر، ومنها: الاشكال والالوان، والمهم هو: ان التصوير اساساً علي ما يشاء الله تعالي من حيث الترتيب النهائي للشخصية اتساقاً مع سائر ما قلناه من انه قد يَفْعَلُ مَا يَشَاء ولا يفعل غيره ما يشاء، ولا يسأل عن ذلك، نظراً لحكمته المطلقة التي لا تصل عقولنا الي ادراك ذلك بطبيعة الحال.
اخيراً يختم المقطع بعبارة «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء»، وهذه العبارة بدورها تماثل سابقاتها في ذهابها جميعاً الي ان الله تعالي يعزُّ ويذل، ويَغْفِرُ ويعاقب، ويَهْدِي ويُضِلُّ، وان ذلك جميعاً خاصته لمتطلبات الحكمة، وما علي الشخصية إلا ان تتوسل به تعالي بأن يختصها برحمته، وهي منزلة: ما اوفرها حظا، واتمها سعادة، ان الرحمة من الله تعالي هي ما يتطلع اليه العباد اليها، حيث لا حدود لها، سائلين الله تعالي الي ان يختصها بنا في جملة ما يختص بها من يشاء، وان يوفقنا الي ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الي النحو المطلوب.
*******