لا نزال نحدّثك عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدّثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدّثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من شكره فوز للشاكرين، يا من حمده عزّ للحامدين، يا من طاعته نجاة للمطيعين، ...).
هذه العبارات هي امتداد لسابقتها من حيث انصبابها في صياغة موحّدة متجانسة متزاوجة من حيث الربط بين المظهر الإلهي وبين انعكاساته، اي: معطياته على قارئ الدعاء، ولنقف عند هذه العبارات او المظاهر، ومنها فقرة: (يا من شكره فوز للشاكرين). فماذا نستلهم من السمة او المظهر أو الصفة وانعكاساتها على القارىء للدعاء؟
من البيّن، ان النصوص الشرعية المتنوّعة طالما تندب الشخصية الى الشكر لله تعالى على نعمه التي لا تحصى والسؤال هو: ما هي المعطيات المترتبة على الشكر لله تعالى؟
الجواب: ثمة معطيات متنوّعة منها انّ الشكر نفسه يحتاج الى شكر: كما ورد في بعض النصوص سرّ ذلك، ان العبد عندما يشكر الله تعالى فإنّ المعطى المترتـّب على ذلك، هو زيادة النعمة، فاذا شكرناه تعالى مثلاًَ في توفيقه إيّانا للعمل العبادي أو للصحة أو الرزق وسعته، فإنّ الشكر المذكور يتسبّب في زيادة النعمة، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ». اذن الشكريتسبّب في زيادة نعمه تعالى، وهذا معطى لا حدّ لتصوّره.
هنا يتعيّن علينا ان نشير من جانب الى اهمية الشكر وصلة ذلك، ليس بالنعيم فحسب اي زيادته، بل بتقدير الله تعالى ذلك، حتى إنه تعالى كما نعرف ذلك جميعاً طالما يسم انبياءه كلّا بحسب ما يغلب على سلوكه من سمات مثل (الشكور)، (الصابر)، (الخليل)، (الكليم)، من هنا انه تعالى يصف عبده النبيّ نوحاً (عليه السَّلام) بأنه «كَانَ عَبْدًا شَكُورًا» ممّا يعني ان الشكر يقترن عند الله تعالى بتقدير فائق: كما هو واضح.
هنا - يتعيّن علينا - من جهة جديدة ان نشير الى انّ الشكر (من زاوية نفسية) ينطوي على سلوك في غاية السواء، اي: السلامة النفسية مقابل المرض النفسي، كيف ذلك؟ ان الشاكر لله تعالى يعني: انه يثمّن ما يمنحه تعالى من النعمة، وليس يجحدها، وهذا على العكس ممّن يجحد نعمه تعالى، لأنّ الجحد هو: غيمومة للنبض الانساني بحيث يسلخ الشخصية من إنسانيتـّها مادامت لا تقدّر من يسبغ عليها النعم ولعلّ السمة السوية التي اشرنا اليها الآن تتضح بجلاء اكثر حينما نربط (ليس بين شكر العبد لله تعالى) فحسب، بل حتى شكره لمن يحسن اليه من البشر، ولذلك ورد في الحديث: أنّ من لا يشكر المخلوق لا يشكر الخالق، وهذا بدوره ينطوي على معطىً آخر من الزاوية النفسية والعبادية، كيف ذلك؟
ان المخلوق عندما يقدّم مساعدة لأخيه، انما ينطلق من دافع فطري هو: انسانيته التي ركبها تعالى في الشخصية، وهذا الحسّ الانساني يتصاعد عندما يشعر المحسن بأنّ الآخر ثمن مساعدته، طبيعياً: الشخصيات المصطفاة لا تنتظر شكراً من المخلوق تبعاً لقوله تعالى على لسان علي (عليه السَّلام) وفاطمة (عليها السَّلام) والحسنين (عليهما السَّلام): «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا» ولكن بنحو عامّ فإنّ الشكر للآخر يفرز عطاءاته دون ادنى شك، على الأقل، فإنّ الشاكر يظلّ هو الفائز بهذا المعطى وليس المعطي، وذلك لأنّ الشكر - كما ذكرنا - هو تقدير وليس جحداً للنعمة، والتقدير للنعمة وحده له عطاؤه الكبير - كما اسلفنا- من حيث الصحة النفسية للشخص.
اذن ادركنا بوضوح مدى أهمية الشكر لله تعالى من جانب، وحتى للمخلوق من جانب آخر، من حيث انعكاساته العبادية والنفسية، سائلين الله تعالى ان يوفقنا للسلوك المذكور، وان يوفقنا للطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******