لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها (دعاء الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ينتهي بهذا النحو: (يا مقيت، يا مغيث، يا معز، يا مذل، يا مبديء، يا معيد) ونحدثك الآن عن هذه الفقرات، وهي فقرات ثنائية متجانسة، اي: المبدئ يتقابل مع المعيد والمعز يتقابل مع المذل، واما المقيت فيتجانس أو يتوافق مع المغيث، وهي فقرات لها جماليتها ودلالتها العميقة.
بالنسبة الي صفة (مقيت) تعني اعطاء القوت اي: ان الله تعالي يتكفل بايصال الرزق او القوت للانسان (وهو امر حدثناك عنه في لقاء سابق). اما الآن فيعنينا ان نحدثك عن (يا مغيث) ومجانستها مع (يا مقيت) ويمكننا ان نوضح ذلك من خلال ذهابنا الي القوت هو امر لامناص من توفره للانسان والا تعرض الي الموت، وهو امر يتلائم مع المهمة العبادية التي او كلها تعالي للانسان، حيث ان تجربة العبادة او الخلافة في الارض تتطلب استمرارية العمر، وهذا ما يتسق تماماً مع ضرورة تهيئة القوت حتي يمكن تحقيق المهمة المذكورة.
بيد ان السؤال هو: ما هي علاقة (يا مغيث) مع عبارة (يا مقيت)؟
في تصورنا ان ممارسة الخلافة في الارض أو التجربة العبادية التي تنطق بها الآية المباركة: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»كما انها تتطلب توفر (القوت) لاستمرارية العمر، كذلك (وان كان بدرجة اقل) تتطلب نمطا من التوازن الداخلي للشخصية ونقصه بالتوازن الداخلي (بحسب المصطلح النفسي) هو: ازاحة القلق او التمزق او الشدة غير القابلة للتحمل، حيث ان الممارسة العبادية لا يمكن ان تتحقق فاعليتها الا مع قدر من التوازن والا فان الحياة اساسا هي مكابدة للشدائد كما في قوله تعالي: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ».
المهم ان الله تعالي عندما (يغيث) الانسان من الشدائد غير القابلة للتحمل، انما يهئ بذلك قابلية تتماثل مع أهمية القوت بالنسبة الي استمرارية العمر وامكانية توظيفه للعمل العبادي.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا معز) او (يا مذل) وهما عبارتان متضادان، اي ان العز يضاد الذل، فماذا نستلهم منهما؟
ان هاتين العبارتين مقتبستان من القرآن الكريم اي: هي مانطلق عليه (التناص) بحسب المصطلح الحديث المعاصر لهذا النمط من الاستخدام اللغوي. ان النصوص القرآنية الكريمة طالما تشير الي ان الله تعالي يعز من يشاء ويذل من يشاء. فما هو السر الكامن وراء ذلك؟ تشير النصوص المفسرة الي ان المقصود من ذلك ان الله تعالي يعز المؤمن مثلاً ويذل الكافر، سواءاً كان ذلك في الدنيا او في الاخرة: علي شتي المستويات التي يتعامل فيها الله تعالي مع أوليائه ومع اعدائه.
ونتجه الي الفقرة الاخيرة من المقطع وهي: (يا مبدئ، يا معيد) فنجدها تتناول ظاهرة الخلق من حيث الابتداء والاماتة والاحياء، بصفة انه تعالي يبدئ الخلق، في غمرة ممارستهم العبادية، ثم يميتهم، ثم يعيدهم، والمهم هو: ان نستلهم من العبارتين المتقدمتين: مدي عظمته تعالي من جانب، ومدي ما ينبغي علينا ان نستثمره من العظات بالنسبة الي وظيفتنا العبادية وضرورة استثمار ذلك في ميدان الطاعة وتلافي ما بقي من العمر بالتوبة، واستثماره بما هو في صالحنا بما ينتظرنا من اليوم الآخر.
*******