نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا حي الذي يميت كل حي، يا حي الذي يرزق كل حي، يا حياً لم يرث الحياة من حي، ...).
هذه العبارات امتداد لما لاحظناه في لقاءات سابقة من المظاهر المتصلة بعظمة الله تعالي متمثلة في احدي صفاته تعالي (الحياة)، حيث كانت عبارة (الحي) أو عبارة (حي) أو (حياً) هي المحور للمقطع بأكمله، ويعنينا الآن ان نلاحظ ما هو الجديد في الموضوع، وأوله مظهر: (يا حي الذي يميت كل حي) ثم يليه (يا حي الذي يرزق كل حي). هنا يجدر بنا ان نقف عند هاتين العبارتين، أي: العبارة المشيرة الي انه تعالي يميت الاحياء، وانه تعالي يرزق الاحياء، وهما عبارتان تتحدث احداهما عن حي يموت، والاخري عن حي يرزق، بينما يتوقع قارئ الدعاء أن تتقابل عبارة اخري سنوجها لاحقا ان شا الله تعالي وهي عبارة: (يا حي الذي يحي الموتي) حيث الاحياء والاماتة تتقابلان في كثير من النصوص القرآنية والحديثية، وهو أمر يدعنا متسائلين: ما هو السر الكامن في هذا المقطع من الدعاء، حيث قابل بين عبارة (يا حي الذي يميت كل حي) واروائها بعبارة (يا حي الذي يرزق كل حي)؟
في الاجابة عن السؤال المتقدم، يخيل الينا ان كلا من الاحياء والاماتة يردان في سياق الحديث عن قدرته تعالي في ايجاد الشيء واعدامه، اما الحديث عن انه تعالي (حي) وان الاحياء الذين خلقهم انما يستمدون فاعليتهم من الله تعالي، فأنه سياق آخر: كما هو واضح. السياق هو: كما قلنا فاعليته تعالي بصفته (حياً) لا قبل له ول ابعد، بالنسبة الي مختلف شؤؤن الاحياء الذين خلقهم، ومن ذلك: الموت والرزق، والسؤال الان جديداً هو: ما هي العلاقة المتجانسة أو المتضادة في موضوعي الحي الذي يميتالأحياء، والحي الذي يرزق الاحياء؟
في تصورنا ان العبارة الاولي تجعل اذهاننا متداعية الي جملة حقائق يستهدف مقطع الدعاء توصيلها الينا، منها: ان الله الذي هو(حي)، (يميت) الاحياء، وهو موضوع له دلالته في ازلية الله تعالي وابديته مقابل حدوث الانسان من حيث كونه يتعرض الي الموت بعد الحياة ومنها: ما يرتبط بالعبارة التالية لها وهي: (يا حي الذي يرزق كل حي)، والنكتة هي: ان الرزق هو مادة الحياة، فكما انه تعالي يعيد حياة الانسان، فهو: يمد حياته من حيث الاستمرارية المؤقتة: حتي يمارس وظيفته التي خلق الله تعالي الانسان من أجلها وهي: العبادة بالاضافة الي ان موضوع الرزق يظل ذا أهمية اقتصادية.
من البين، ان أهم ما يرتبط بالدوافع المركبة في الانسان - وهذا ما أوضحناه في لقاء اسبق - هو: الدافع الي الحياة، وهذا الدافع لا يتحقق إشباعه الا من خلال الرزق الاستمراري أي: تهيئة الوسائل التي تمد الانسان باستمرارية وجوده الدنيوي من: مال وطعام ومسكن، متمثلاً في ظاهرة (الرزق) الذي يتم بواسطته تدفق واستمرارية العيش. بعد ذلك نواجه عبارة (يا حياً لم يرث الحياة من حي). فماذا نستلهم منها؟
من البين ان العبارة المذكورة سوف تجعل اذهاننا متداعية الي التقابل بين المطلق وبين النسبي او بين الموجود الازلي وبين الموجود الحادث اي بين الخالق تعالي وبين المخلوق، بين القادر والعاجز، فما دام محور المقطع هو (الحي) حينئذ فان التقابل بين القادر وبين العاجز، او بين الحي الذي يحقق الحيوة للمخلوق وبن المخلوق الذي لا قدرة له علي ذلك: يظل من الوضوح بمكان.
*******