الوصية هي كلام يوجهه (عليه السلام) الى شخص محدد، يتضمن تنفيذاً لعلم او ارشاداً لمختلف السلوك العبادي، وهو يتم اما من خلال المطالبة بالتزام ذلك في حياته (عليه السلام) أو بعد وفاته (عليه السلام). ففي الحالة الاولى تتم التوصية الى وال، أو قاض، أو عامل، او قائد عسكري: يبعث به الى ادارة مدنية او جنائية او محكمة او جبهة قتال، فيوصيه بمواعظ خاصة ترتبط بوظيفته وبمواعظ عامة ترتبط بمختلف السلوك العبادي. كما يوصي بهذه الأخيرة مطلق أصحابه أو ممن يتلقيهم... واما في الحالة الثانية (أي الوصية لما بعد الموت) فتنحصر: اما في المطالبة بتنفيذ عمل من الأعمال، أو بمطلق التوصيات العبادية، وفي هذا الصعيد تتحدد التوصية الى اولاده (عليهم السلام) او أقاربه (عليهم السلام) واحياناً الى سواهم ... كما تخضع مثل هذه التوصيات الى تقنيات معينة ترتبط بظاهرة الموت، والاستعداد له، وترديد الشهادتين.. الخ.
وبما أن محتويات الوصايا - بغض النظر عن مقدماتها التي تخص شخصاً محدداً او حقاً مالياً- تماثل سائر ما تتضمنه خطبه ورسائله وتوصياته، حينئذ لا نتحدث مفصلاً عنها، بل نكتفي بالقول، بأن (الوصايا) شكلت مادة ادبية ضخمة فرضتها مناسبات متنوعة، وانها تخضع - فنياً- لنفس التقنيات التي تخضع لها سائر الاشكال الادبية التي توفر الامام (عليه السلام) عليها. فلو وقفنا عند وصيته لولده الامام الحسن (عليه السلام) مثلاً، لوجدنا انها تستهل بهذا النحو: (من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذام للدنيا...) (۱۲).. فهذا الاستهلال - بالرغم من كونه يخص شخصاً محدداً- الا أنه يتجاوز ما هو (خاص) الى ما هو (عام) ليصب في نفس الاهداف العبادية التي تطبع سائر اشكال التعبير الفني عند الامام (عليه السلام)، وذلك من خلال اخضاعه لعمارة تتواشج وتتنامى موضوعاتها بحيث يصبح هذا الاستهلال (تمهيداً) فنياً تبدأ الأجزاء اللاحقة بتفصيل ما أجمله الاستهلال وتنمية وتطوير مفهوماته، ولنقرأ: (اما بعد: فاني فيما تبينت من ادبار الدنيا عني وجموح الدهر علي واقبال الآخرة الي... حتى كان شيئاً لو اصابك اصابني، وكأن الموت لو اتاك أتاني، فعناني من امرك ما يعنيني من امر نفسي...) فهنا (يفصل) الامام (عليه السلام) ما (أجمله) التمهيد المتصل بادبار العمر وسواه، واصلاً بين شخصيته (عليه السلام) وشخصية ولده (عليه السلام) من خلال الدافع الأبوي وتجاوزه الى ما هو عام من التوصيات التي تبدأ مع المقطع الثالث من الوصية: (أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر...) فهذا المقطع جاء انماء عضوياً أو تطويراً لأفكار بدأت في المقطع الاول (من الوالد الفان)- أي فناء العمر ووصل بين الابن في المقطع الثاني (فاني فيما بينت من ادبار الدنيا عني.. حتى كأن شيئاً لو اصابك...) وجاء المقطع الثالث ليفصل الحديث عن (الفناء) الذي شكل طابعاً مشتركاً في المقاطع الثلاثة وارتباط ذلك بنمط السلوك الذي ينبغي أن تختطه الشخصية في تعاملها مع ظواهر الحياة المرتبطة بـ (الفناء) (ذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء...) او المفضية الى ذلك (بصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر) بل حتى المطالبة بالزهد والعناية بالموعظة وامته بالزهادة)... اذاً: لحظنا كيف ان الوصية قد انتظمت في بناء هندسي محكم تتنامى وتتجانس مقاطعه بعضاً مع الاخر بالنحو الذي لحظناه، بحيث جاءت (الصور الفنية) ايضاً تصب في فكرة (الفناء) وما يقابله من (الحياة)، فقوله (عليه السلام) (أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهد) ينطوي على خصيصة فنية هي (التشابه من خلال التضاد، والتضاد من خلال التشابه)، فالفناء مادام هو النهاية: حينئذ فان (الحياة) هي: «احياء» القلب بالموعظة، ... والفناء مادام هو النهاية: حينئذ فان (الموت) هو: «اماتة» الحياة ذاتها من خلال (الزهد) بها... وهكذا تتوالى المقاطع واحداً بعد الآخر لتتحدث عن تجارب (الحياة والعمر) وصلة ذلك بمفردات السلوك الذي طالب الامام (عليه السلام) بممارسة: كل أولئك - كما قلنا- يتم وفق نماء وتطوير فني لأفكار الوصية التي تتلاحم وتتجانس وتتقابل خطوطها، منتظمة في هيكل هندسي محكم.
*******
(۱۲) تحف العقول: ص ٦٥، ۸۳.
*******