الرسالة هي كتاب رسمي يوجه الى (شخص محدد): وال، عامل، قاض، قائد، الخ أو الى (جماعة أو مجتمع)، يطلب اليهم العمل بموجب وظائفهم الرسمية أو الأهلية: حسب مراكزهم وادوارهم الاجتماعية، فضلاً عن مطالبتهم بالسلوك العبادي العام... والرسائل تحتل موقعاً ضخماً من النصوص المأثورة عن الامام (عليه السلام) حتى لتكاد تضارع حجم الخطب مثلاً، مادامت طبيعة المسؤولية الرسمية التي تسلمها أواخر حياته تفرض مثل هذه الكتب الادارية التي توجه الى كبار موظفي الدولة او الى المواطنين، أو الى خارج الموسسة الاسلامية من الاعداء وسواهم... والرسالة تستهل عادة بصياغات خاصة: من نحو (بسم الله الرحمن... من عبد الله... الى .. أما بعد...) ثم يسرد الموضوع الذي صيغ الكتاب او الرسالة من اجله... كما انها –اي الرسالة- تكتب في الغالب بلغة مترسلة تختلف عن لغة الخطابة لانها في صدد تحديد وظائف تتطلب لغة واضحة خالية من التركيب الصوري... لكن مع ذلك، نجد أن الرسائل التي يكتبها (عليه السلام)، موشحة بلغة فنية لافتة الانتباه، كل ما في الأمر انه (عليه السلام) يعوض عن عناصر الايقاع والصورة بعناصر (أسلوبية) أو (لفظية) تحقق نفس الاثارة المطلوبة في الفن: مع توشيحها أيضاً بقدر ملائم من الصورة والايقاع، ... مع ملاحظة أن هيكل الرسالة يظل - كما هو طابع جميع الاشكال الادبية- خاضعاً لاحكام هندسي تراعى من خلاله: صياغة الموضوعات أو العواطف من خلال عمليات التدرج، والنمو، والسببية، والتجانس، ونحوها من متطلبات البناء الفني للنص، سواء أكانت الرسالة ذات حجم صغير لا يتجاوز الاسطر او ذات حجم يبلغ صفحات متعددة (مثل رسالته (عليه السلام) الى الاشتر)... ولنقف عند هذه الرسالة التي تعد وثيقة اجتماعية ذات أهمية بالغة الخطورة في تنظيم شؤون الدولة في مختلف موسساتها السياسية والاقتصادية والتربوية الخ، حيث توفر على دراسة هذه الوثيقة عدد كبير من الباحثين الذين يعنون بشؤون المجتمع الانساني، وعدوها افضل صياغة عرفها الانسان في تأريخ المجتمعات قديماً وحديثاً... وما يعنينا منها هو: الطابع الفني في صياغتها من حيث عناصرها وبناؤها. لقد بدأت الرسالة بالمطالبة باتباع أوامر الله تعالى وبمخالفة هوى النفس، ثم طالبته بأن يعمل بمثل ما يأمله هو من الوالي لو كان غيره، وقالت: (فليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك) (۱۳) وهكذا ربطت بين المقدمة التي طالبت باتباع أوامر الله ومخالفة النفس وبين قولها (فليكن احب الذخائر...) (فاملك هواك و..) المتضمنين لاتباع الاوامر ومخالفة النفس ... ثم تابعت القول: (واشعر قلبك بالرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم...) وهكذا ايضاً ربطت بين ما طالبته بأن يعمل بمثل ما يأمله من الولاة، وبين مطالبتها الآن بأن يلطف بهم ولا يكون عليهم سبعاً ضارياً يغتنم أكلهم ... ونتابع الصفحات الطوال لهذه الرسالة فنجدها على هذا النسق من الطرح المرسوم بدقة وبسببية تنتظم هيكلها العام... لكن: لنقف ايضاً عند لغتها...
لغة الرسالة تمضي مترسلة: نظراً لمتطلبات الموقف، فهي ليست على نسق الخطب التي وقفنا عندها بحيث لم تكد تخلو جملة واحدة من عناصر الصوت والصورة، بل - على العكس من ذلك- نجد أن فقرات الرسالة تمضي مترسلة كل الترسل من نحو (واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة...)، لكن: خلال ذلك تستوقفنا محطات صورية وصوتية في الرحلة الطويلة التي تقطعها هذه الرسالة مثل (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم) فهو عندما يطالب الوالي بأن يلطف بالرعية يتوسل بهذه الصورة «التمثيلية»: صورة السبع الذي ينتظر أكل الناس، وكان لابد من صياغة مثل هذه الصورة المعبرة عن ادق سمات التسلط على الناس حيث يغتنم المتسلط دافع السيطرة والتفوق فيأكلهم معنوياً (من خلال موقعه) ومادياً (من خلال جبايته لاموالهم) وهذا ما يصنعه غالبية الولاة فيما حذره (عليه السلام) من ذلك... وعندما تتحدث الرسالة عن الجنود: تتوسل بعنصر الصورة التمثيلية ايضاً فتقول:
(فالجنود - باذن الله - حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن...) لنلاحظ ان هذه الصورة تتسم بالالفة والوضوح أيضاً حتى انها لتتجانس مع لغة الرسالة المتسمة بالوضوح والالفة حيث استدعى الموقف: ركوناً الى مثل هذه الصور المألوفة مادام الامر يتصل بالحديث عن الجنود الذين يشكلون القوة التي تحمي الدولة من العدوان، حيث ان مفهوم (الحماية) لا يتبلور بوضوح الا من خلال الركون الى صور تركيبية مثل (الصحن) (السبيل)... الخ. فلكي يوضح للاخرين مفهوم (الحماية) حينئذ فأن (الحصن) يجسد هذا المهفوم اكثر مما توضحه اللغة التقريرية المباشرة...
اذاً: يجيء العنصر الصوري في صياغات خاصة تتطلب مثل هذا العنصر ببساطته المتناسبة مع الوضوح اللغوي للرسالة كما لحظنا...
وحين نتابع رسائله الأخرى، نجد أن طابع الترسل هو الذي يسمها في الغالب للأسباب التي ألمحنا اليها.. لكن، نجد أن العناية بالاسلوب الصوري والايقاعي قد برز في مواقف خاصة بحيث تصبح الرسالة مثل الخطبة أو سائر الاشكال الادبية التي يتضخم فيها العنصر المذكور، فالرسالة التي وقفنا عندها لا تعد رسالة الى شخص مسوول فحسب بل انها (وثيقة)- كما قلنا- نموذجية او قوانين عامة يتم الاسترشاد بها كل حين، وهذه على العكس من الرسائل الخاصة التي تطالب بتنفيذ عمل رسمي موقت أو طارىء تخص المرسل اليه فحسب، فمثلاً نجد رسالته (عليه السلام) الى أبي موسى عامله على الكوفة حيث كان يثبط الناس عن حرب الجمل، قد كتبها (عليه السلام) بهذه اللغة المحتشدة بعنصر (الصور) الملفتة للانتباه: (أما بعد: فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فاذا قدم رسولي عليك: فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من جحرك، واندب من معك، فان حققت فانفذ، وان تفشلت فابعد، وايم الله لتؤتين من حيث انت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك وتحذر من امامك كحذرك من خلفك، وما هي بالهوينا التي ترجو ولكنها الداهية الكبرى يركب جملها، ويذلل صعبها ويسهل جبلها، فاعقل عقلك واملك امرك.. الخ) (۱٤) فبالرغم من قصر هذا النص:
نجده قد احتشد بصور متتابعة هادرة مثل (فارفع ذيلك) (أشدد مئزرك) (يخلط زبدك بخاثرك) (وذائبك بجامدك) (يركب جملها) (فاعقل عقلك) الخ...
ان حشد مثل هذه الصور في رسالة لا تتجاوز اسطراً معدودة: يكشف عن ان السياق قد تطلب مثل هذه الرسالة الهادرة بالغضب من اجل الله تعالى... والمهم انها رسالة الى رجل له موقف (خاص) من معركة (خاصة) فيخاطب بلغة (خاصة) يفهمها الرجل لكونها تتعلق بسلوكه الذي يخبره الرجل تماماً...
وتمضي غالب رسائله الخاصة على هذا النحو من الصياغة الصورية والايقاعية.
*******
(۱۳) نهج البلاغة: ص ٥۱۷، ٥٤۰.
(۱٤) نفس المصدر: ص ٥٤۹، ٥٥۰.
*******